بقلم / د. نيفين مسعد

عقدت مكتبة الإسكندرية مؤتمرها الدولى الرابع لمواجهة التطرف فى الفترة من 28 إلى 30يناير تحت عنوان «الفن والأدب فى مواجهة التطرف»، وكما هو واضح فإن هذا المؤتمر يمثل استمرارا لدور المكتبة فى التأكيد على أهمية القوة الناعمة وأدواتها المختلفة سواء فى الوقاية من الفكر المتطرف وتحصين النشء ضده أو فى علاج آثاره الضارة على المجتمع، تاريخ مكتبة الإسكندرية وموقعها الجغرافى وتعاقب اثنين من القامات الثقافية الرفيعة - هما الدكتور اسماعيل سراج الدين والدكتور مصطفى الفقى على إدارتها - عوامل تؤهل المكتبة تماما للعب هكذا دور.

وفيما يخص المؤتمر الأخير فإنه كان فرصة لتبادل الأفكار بين عدد معتبر من المثقفين العرب والأجانب، كما أن نظام الجلسات الموازية الذى اعتمده المؤتمر ساعد على تقصى جوانب الموضوع من زاويا متعددة كالمتاحف والإعلام والقانون والمؤسسات الثقافية .

بين كل الزوايا التى تناولها المؤتمر أتخير التركيز على زاوية الأدب ومبررى فى ذلك أنه عادة حين يتم التعرض لدور الثقافة فى مواجهة التطرف يكون الاهتمام بفنون السينما والمسرح دون التطرق لدور الأدب فى تلك المواجهة علما بأن كل عمل إبداعى جيد يبدأ بنص مكتوب بشكل جيد، هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الأدب وكما سيلى بيانه هو أداة أساسية من أدوات إدماج قيم الحب والخير والجمال فى مقررات التعليم، وبالتالى إعادة المدرسة لوضعها«مكان يدخل إليه الناس بعيون مغمضة ويخرجون بعيون مفتوحة» كما يقال.

تَرَأَسَ جلسة الأدب الإعلامى المصرى البارز محمود الوروارى ، وحظيت الجلسة بمداخلات غنية لثلاثة من الرموز الأدبية المهمة: إنعام كجه جى من العراق وسيد محمود من مصر ومبارك السالمين من اليمن، وشارك فى إثرائها مبدعون فى قامة مخرجنا الكبير محمد فاضل.

وطرحت الجلسة عددا من الإشكاليات هى فى صلب الوظيفة التنويرية للأدب وعلاقته بمواجهة التطرف .الإشكالية الأولى تتعلق بكيفية التوفيق بين حاجة الأديب إلى الحضور فى المشهد الراهن والاشتباك بقوة مع ظاهرة التطرف، وبين عدم الوقوع فى أسر «الاستعجال» والسرد التوثيقى للأحداث.

هنا دار نقاش كثير ، فمن قائل بأن الأديب يحتاج أن يأخذ خطوة إلى الوراء ويتأمل الأحداث الكبرى عن بعد ليعود ويجسدها عبر الحبكة القصصية فى شخوص وعلاقات، إلى قائل بأن الأدب ابن مرحلته وأنه يتعذر على الأديب أن ينفصل شعوريا عن الواقع المعاش. والحق أن المسألة محل نظر فبعض من نبهوا إلى خطورة لهاث الأديب وراء الأحداث المتلاحقة كانت رواياتهم خير شاهد على المرحلة التى عايشوها، ومن هؤلاء الأديب الطاهر وطّار أشهر من كتب عن عشرية الدم السوداء فى الجزائر. والرأى عند كثيرين أن الأمر يرتبط فى الأساس بصنعة الأديب ومهارته فى توظيف أدواته بغض النظر عن المسافة التى تفصله عن الحدث، وطالما أن «الوردة هنا» فلا بأس من أن نرقص إلى جوارها كما قال ماركس.

الإشكالية الثانية ترتبط بمعضلة الوصول إلى الشباب والإجابة عن سؤال: كيف يمكن تجاوز الوسائط التقليدية للنشر من أجل التأثير فى أكبر عدد ممكن من الشباب؟ هذا فتح باب النقاش واسعا على أهمية اللجوء لوسائل التواصل الاجتماعى من أجل الترويج للأعمال الأدبية، وكمثال قيل إن الإعلان عن تلك الأعمال عبر اليوتيوب يجذب قطاعا كبيرا من الشباب و يُحيّد الدور السلبى لتلك الوسائل فى منافسة الورق المكتوب، وهذا مهم واتصالا بالنقطة ذاتها جرى التأكيد على التجسيد الدرامى للنصوص الأدبية تحقيقا لانتشارها على أوسع نطاق ممكن، فهذا التجسيد هو الذى نقل أعمال كبار الأدباء من دائرة القراءة إلى دائرة المشاهَدة وفارق واسع بين الدائرتين. هل نحتاج من أجل النفاذ إلى وجدان الشباب أن نتحدث بلغتهم العامية وأحيانا الهجينة وأن نقحم على الأدب الذى هو «رياضة النفس على المحاسن» بعض المفردات القبيحة؟،

كان هذا من عينة الأسئلة المثارة التى اختلفت بشأنها الآراء بين من طالب صراحة من القاعة بفرض الرقابة على الأعمال الأدبية حماية لأخلاق النشء، وبين من أكد من فوق المنصة أن القراءة عملية ديمقراطية بطبيعتها وأن كل طبقة من طبقات الأدب لها قراؤها، وواقع الحال أن الرقابة تتنافى مع الخيال الذى هو روح الأدب، والقاعدة تقول إن المنع أقصر طرق الذيوع.

الإشكالية الثالثة تدور حول إدماج النصوص الأدبية فى المقررات الدراسية، وهنا نحن بصدد ذخيرة ضخمة جدا من الأعمال الأدبية المُحَملة بقيم راقية يحتاج الاختيار من بينها لأمرين، الأول هو تحديد بعض أهم القيم المراد ترسيخها والتدرج فى تدريسها عبر المراحل التعليمية المختلفة ، فمع أنه لا مفاضلة بين القيم الإنسانية الرفيعة لأن جميعها ضرورى لبناء الشخصية السوية إلا أن بعض القيم تعرض لهزات عنيفة منذ السبعينيات كقيم المواطنة والتنوع وقبول الاختلاف ما يستدعى إعطاءها أولوية خاصة.

والأمر الثانى هو المشاركة الحقيقية والمستمرة فى لجان تطوير المناهج لنخبة من الأدباء جنبا إلى جنب مع نخبة التربويين، فالنصوص الأدبية التى يدرسها أبناؤنا لم تنفتح بعد على أسماء مصرية كبيرة مثل بهاء طاهر وإبراهيم عبد المجيد ورضوى عاشور، وهذا يعوق تفتيح الوعى المبكر على قيمة التنوع الفكرى التى نحتاجها.

أختم بجملة دالة ذكرها مبارك السالمين هى أننا فى مواجهة أمراضنا الاجتماعية ومنها مرض التطرف نحتاج إلى صيدلية متكاملة تحوى أمصالا واقية ومسكنات للألم ومنبهات للحواس، وذلك على هيئة موسيقى وأدب وفن تشكيلى وسينما ومسرح..إلخ ، وهاهى مكتبة الإسكندرية تُمارس دور الطبيب المعالج وتصرف روشتات الدواء عبر عديد ملتقياتها الثقافية الراقية، ومنها مؤتمرها الأخير.

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس