بقلم الشيخ/ عبد الغني العمري الح

إن العقلانية المصدّرة إلى شعوبنا، ليست عقلانية حقا؛ وإنما هي فوضى عقلية، تتخفى خلف توظيف جزئي للعقل، يجعل من لا علم له، يتوهم اعتماد العقل في كل أموره. وهذا أسلوب تلبيسي تعتمده الشياطين منذ فجر التاريخ. إن العقلانية التي لا تتجاوز ظاهر الدنيا، لا يمكن أن تُعتبر إلا إن كان المرء غير مؤمن بالآخرة، ويرى الموت نهاية يعود معها الأموات إلى العدم المحض. وهذه المقدمة غير متيقنة، ما دام أصحابها لا يعلمون حقيقة الموت نفسه، فضلا عن أن يكون لهم علم بما بعده...

إن الموت لدى الماديين، لا يعدو أن يكون نهاية صلاحية البدن، كما هو شأن الآلات التي تُهمل عند تلف أجزائها، وإصابتها بعطل غير قابل للإصلاح. والحقيقة أن البشر ليسوا آلات فحسب، حتى ينظر إليهم كما يُنظر إليها. والعقل الذي يعتمده الماديون زعما، هو أكبر فارق بين البشري والآلة. فهل العقل لدى الإنسان هو جزء من الآلة، أم هو شيء غيرها؟... إن من يزعم أن العقل هو الدماغ ذاته، حتى إذا مات الدماغ مات العقل معه، لا يعلم من حقيقة العقل شيئا؛ لأن العقل من وراء الدماغ، يُدبر به البدن فحسب. وعند موت الدماغ، فإن العقل يفقد وسيلة تدبير البدن فحسب؛ وهذا هو الموت العام للبدن. أما العقل بما هو عقل، فلا يموت؛ وإنما ينتقل إلى عالم (بُعد) آخر، تسكنه العقول (النفوس) التي فارقت أبدانها. وهذه العقول، ينطبع فيها كل ما اكتسبته بواسطة أبدانها في سابق حياتها؛ إلى الحد الذي تبقى معها صورتها التي كانت تُعرف بها في عالم الدنيا؛ وتبقى معها العلوم الذوقية الحسية التي نالتها عبر الحواس؛ وتستصحب أيضا معقولاتها التي كانت قد توصلت إليها بعملية التفكر أو عن طريق الإلقاء (الكشف). كل هذا، في انتظار حلول الآخرة، بعد فناء الدنيا الموعود.

وإذا نظرنا إلى العقول السقيمة التي صار الناس يقلدونها من غير تمحيص، فإننا سنجدها تعمل للدنيا في جميع أحوالها، وكأنها لن تغادرها يوما؛ وهذا خلل في التصور بيّن. بل الأفدح من هذا، أننا نجدها تعمل للدنيا، باعتبارها العالم الأوحد؛ وكأن الموتى سيعودون يوما إليها!... وهذا التصور، هو الذي يجعل العقول الضعيفة، تحتفي احتفاء زائدا بالإنجازات التقانية، التي تتيسر معها الحياة الدنيا، بحسب إدراكها الظاهري. وفي الأثناء التي يُحتفى فيها بإنجاز ما، على يد عالم ما من علماء الكونيات، لا يُنظر إلى حال هذا العالم عند مغادرته الدنيا. ولا يؤبه لرأيه فيما أنجزه، بعد مغادرته؛ وكأنه قد أُسقطت كل حقوقه، والتي منها اعتبار مآله.

ولو أننا نظرنا إلى أديسن -مثلا- وإلى إنجازاته العديدة، التي قلبت حياة الناس وغيرتها إلى ما بتنا نعرفه اليوم؛ وأردنا أن نعلم أثر إنجازاته على عالمه حيث هو، لوجدناه صفرا؛ لأن أديسن لا يستنير في عالم البرزخ بالكهرباء المعلومة لنا -مثلا-، ولا يكالم الناس بالهاتف... والسبب هو أن الفيزياء البرزخية مخالفة لفيزياء الدنيا، كما ذكرنا في فصول سابقة. والاستنارة في البرزخ، تكون بأمور أخرى، هي الإيمان والأعمال الصالحة. لأن عالم البرزخ، يُطالع الناسُ فيه أحوال آخرتهم، التي تكون جزاء لما كانوا عليه في دنياهم. والعقل الذي لا يعتبر إلا الدنيا، ولا تكون فيه أقدار الناس إلا وفق إنجازاتهم الظاهرية فيها، يكون منكوسا، ينظر إلى عكس الجهة التي هو راحل إليها. وعقل هذه صفته، لا يُعتد به في الحكم على الأمور؛ خصوصا فيما يتعلق بالمعقولات وترتيبها بحسب الأهمية.

والعرب المسلمون عندما صاروا يسيرون خلف العقل الغربي الدنيوي الكافر، قد ارتدوا ردة عقلية عن المكانة التي كانت لهم، وبوأهم إياها نور الوحي ومدد النبوة. والأمة العربية وإن لم تكفر كفرا تاما بالمعنى الشرعي، إلا أنها قد تقهقرت عقليا، إلى ما دون العقل المفكر على الأقل. وجل مفكريها الآن، ليسوا إلا ببغاوات، يرددون ما سبق للعقل الغربي أن خطه لهم؛ وكأن العقل الغربي قد صار رسولا من الله إليهم!...

إن العقل العربي في الحقيقة، لا يطلب علم الحقيقة لدى العقل الغربي، كما قد يوهم نفسه أو يوهم غيره؛ وإنما هو بفعل الهزيمة المعرفية التي يرزح تحتها، يريد أن يرضي العقل الغربي عنه ولو جزئيا؛ ما دام لا يتمكن من منازلته معرفيا. فهو كالمواطن الجبان، الذي يُرضي حاكمه، لا لأنه على حق، وإنما لأنه يخاف بطشه فحسب.

هذه المعاملة العقلية الزائفة من العقل العربي، لا يعلم المخرج منها أحد، بعد أن دخلها الجميع. ولو أن العربي أعمل عقله، فيما ينبغي وبالطريقة التي تنبغي، لما وصل إلى ما وصل إليه. وإنّ جعل الدين مخالفا للعقل، بحيث صار التدين الحق، يُستر في مجتمعاتنا تبعا لذلك، كما تُستر العورات، ليس من العقلانية في شيء؛ بل هو ضعف في الإيمان وفي العقل معا. والوضعية الناشئة عن كل ذلك، هي وضعية اصطناعية شاذة، لا محل لها في مجتمع سليم.

ونحن عندما نعلن أن العقل لا يُخالف الدين، لا نعيد مقولات مضت سالفا في مجتمعاتنا، زعمت أن لا تعارض بين العقل والنقل؛ بل نقول هذا، لأن العقل لا صلاحية له في الحكم على الدين. وكيف يكون العقل حاكما على الدين، وهو من خارجه؟!... بل إن العقل إن كان سليما، فحاله مع الدين تكون القبول وتقييم النتائج بعد التجربة فحسب. وأما الحكم عليه، كما فعل كثير من الغربيين (ولهم شبه عذر بجهلهم للدين الأصلي)، فهو دليل على ضعف العقل فحسب. وتقليد العرب للغربين في هذا، هو دليل على ضعف أشد، من دون شك. وهذا الذي نقوله، لا يعني أن الدين غير عقلاني، لأن العقل يعقل داخل الدين ما يجده ولا بد؛ لكن العقل هنا يكتسب مؤهلات مخصوصة، لا تكون له حال تجرده. وهذا التمييز ضروري، لئلا يُظلم العقل أو يظلم الدين.

حول الموقع

سام برس