بقلم/ احمد الشاوش
كانت فترة السبعينات والثمانينات من اجمل لحظات العمر وأروعها بما تحمله من قيم وعلم وثقافة ومعرفة وابداع وترفيه وتنوع فكري لمختلف المشارب السياسية في العاصمة صنعاء ومدينة تعز الحالمة.

وكانت تعز وصنعاء وإب تُمثل روح الثورة وحُلم الجماهير اليمنية المتطلعة للخروج من قُمقُم الجمود وأسوار التخلف وجدران الجهل وقضبان الحرمان وآفة الفقر والمرض ، عبر جسور الامل وقطار التعليم وقاطرة الحداثة والانطلاق الى عالم الغد المشرق.

وكان لاذاعة صنعاء التي بدأت أول بث لها في العام 1947م بمعدل ساعتين ونصف أسبوعين وبثها فيما بعد بمعدل ساعتين يومياً عام 1958م في الملكية ومن ثم النقلة النوعية بعد ثورة السادس والعشرين من سبتمبر والبث على مدار 24 ساعة شهرة كبيرة.

وقد قدمت العديد من البرامج السياسية والثقافية والدينية والاجتماعية والادبية ، من بينها برنامج قضايا واحداث الذي يعده ويقدمه الاعلامي المخضرم عبدالله الكهالي و برناج فتاوى الذي يقدمه عز الدين تقي ومسعد ومسعدة الذي يقدمه الثنائي المتألق بابا عبدالرحمن مطهر وزهراء طالب ، وتميز عقيل الصريمي وعبد العزيز الشايف وعايدة الشرجبي ومحمد فايع ،، الاثر الكبير في رقي المجتمع اليمني.

وساهمت صحيفة الثورة والجمهورية و26 سبتمبر وغيرها من الصحف الرسمية والاهلية في خلق جيل واعي بعد ان أحدثت صدى كبير في تنوير العقل وتعزيز وتماسك النسيج الاجتماعي والمضي في تحقيق الوحدة الوطنية واستحضار المبادئ القومية والوعي الاجتماعي المتحرر من ادران الجهل.

كما ان انتشار دُور السينما في صنعاء وتعز والحديدة ، وأفتتاح سينما بلقيس بشارع علي عبدالمغني بصنعاء منذ بداية الثورة وعرض العديد من الافلام العربية والاجنبية التي حملت الطابع الوطني والقومي والاجتماعي والرومانسي والدرامي ، بالاضافة الى العروض المسرحية واقامة الحفلات الفنية لكبار المطربين اليمنيين والعرب في صنعاء وتعز والحديدة ، دور كبير في تثقيف واثراء المشاهد اليمني .

ورغم مرور سنوات العمر إلا ان شريط الذكريات مازال يستعرض الافلام القديمة والمسرحيات والحفلات الغنائية لكبار الفنانين اليمنيين ، وفي المقدمة علي الانسي وعلي السمة واحمد السنيدار والكوميدي عبدالله شاكر وآخرين ، كما استضافت عدد من نجوم الطرب والمسرح العربي.

وأدى انتشار الصحف والمجلات المصرية واللبنانية والكويتية وغيرها كالمصور وآخر ساعة وروز اليوسف وأكتوبر والاهرام والعربي والشبكة والموعد وطبيبك واليوم السابع ومجلة المجلة والعرب وهنا لندن وتفعيل دار الكتب ، الى ثورة ثقافية ساهمت في تنوير المجتمع اليمني.

كما ان ابتكار الفيديو وتعدد المحلات المتخصصة في نسخ وبيع أشرطة الفيديو قد أحدث نقلة نوعية لدى المشاهد اليمني والتدفق الرهيب للافلام المصرية واللبنانية والهندية والامريكية ،، ما ساهم في توسيع المدارك والمفاهيم نتيجة للتلاقح الثقافي بإيجابياته وسلبياته الذي أحدث صدمة لدى القوى المتشددة والاكثر تخلفاً.

وأحدث دخول التلفزيون الى اليمن الشمالي سابقاً عبر المحطة الارضية بتاريخ 24 سبتمبر 1975م " ثورة " مكنت الدولة ومؤسساتها الاعلامية من نشر سياساتها وقولبت الرأي العام عبر العديد من البرامج الثقافية والتوعوية والسياسية والادبية والدينية والمسسلات الاجتماعية.

كما ان ظهور كوكبة من نجوم الاعلام والشخصيات المحترفة التي ناضلت في ميدان السلطة الرابعة وحافظت على اخلاقيات المهنة وبرعت في فن التقديم والالقاء وقراءة نشرات الاخبار وتغطية العديد من البرامج قد غرست في المشاهد والمتابع اليمني الكثير من القيم الوطنية وروح المعرفة والتغريد نحو الحياة المدنية الآمنة.

مازلنا وسنظل نتذكر الخارطة البرامجية لذلك الزمن الجميل ، وموعد نشرة التاسعة مساء والحركة الذكية لدوران خريطة العالم بالموسيقى الجذابة التي تُبهر المشاهد والمستمع والصوت الجميل للاعلامي الكبير عبدالله شمسان، وحلاوة احمد الذهباني ، وثقة أمة العليم السوسوة ، وهدؤ هدى الضبة ، وعنفوان علي صلاح ، وتألق انور العنسي وقدرات عبدالملك العيزري وتميز كل هؤلاء وغيرهم من النجوم الذين غادر البعض منهم الى الرفيق الاعلى وآخر فضل المهجر وثالث كان قدره البقاء بعيداً عن الاضواء دون تكريم ، رغم الامانة والمسؤولية الاخلاقية والوطنية والانسانية لاولئك النجوم المضيئة الذين حافظوا على الهوية اليمنية والولاء الوطني وابراز مشاريع التنمية ما أدى الى خلق جيل مثقف حتى اللحظة يحمل الكثير من المبادئ والقيم والمعرفة رغم العواصف السياسية ورياح التغيير المحلية والاقليمية والدولية.

وشاهد الحال ان العاصمة صنعاء في تلك الفترة تحولت الى منارة ثقافية وواحة للشعر والادب والفن والسياسة والحوار والحداثة ، بالتزامن مع تدفق عمالقة الفكر الى صنعاء والانصهار في بوتقة الثورة والدولة اليمنية الحديثة.

لقد تحولت سينما بلقيس بشارع علي عبدالمغني بالعاصمة صنعاء والمملوكة لرجل الاعمال سيف ثابت الى معلم ثقافي وصالة ترفيهية لعرض الافلام، وكان للسينماء الاهلية جوار مسجد البكيرية أيضاَ دور مماثل في الترفيةوالتنوير الثقافي ، وكانت الافلام المصرية والافلام المصرية والهندية هي الاقرب الى عيون وقلوب المشاهدين وكان للرقابة دور فعال في قصقصة المشاهد الساخنةوالمثيرة واللقطات المخالفة للدين وقيم وتقاليدالمجتمع اليمني.

ومن لطائف الزمن الجميل، مازلنا نتذكر لوحات الافلام المعلقة في ميدان التحرير بصنعاء وعلى جدار سينما بلقيس والاهلية وصور وبطولات فريد شوقي ورشدي أباظة ومحمود المليجي واسماعيل ياسين ونبيلة عبيد ونادية الجندي وفاتن حمامة وسميرة توفيق ونجوى فؤاد وفيلم الرصاصة لاتزال في جيبي ، وأغاني الافلام والحانها الجميلة وبطولة دار مندرا" شاكاه" ، والسلاسل وغدار والشقي الطيب وآمال ..أكبر انتوني والخمسات وجبار وفرض وعلي بابا وفيلم غيروا هذا المجتمع الذي ابكى الجماهير وغيره من الافلام والممثلين والمطربين الذين أحدثوا ثورة ثقافية من خلال صناعة الراديو والفيديو والسينماء والتلفزيون ، واليوم ثورة الانترنت ، وغداً يعلم الله الى أين سيصل العلم و الذكاء الاصطناعي.

ومن نوادر الزمن الجميل ان مالك سينما بلقيس ، توفيت والدته ووجه بفتح السينما ثلاثة أيام مجاناً وعرض أحدث الافلام الى نية والدته وفقاً للشائعة التي انتشرت في أوساط جمهور السينما.

لاتزال مشاهد شبابيك بيع تذاكر الدخول لمشاهدة الافلام وحالة الازدحام والفوضى وشراء سندويتشات الكباب ومشروبات الببسي ماركة الستيم وتقسيمات سينما بلقيس الثلاثة المتمثلة في البلكون ، والوسط ، وتحت ، جوار شاشة العرض ،والكراسي الخشبية الجميلة شاخصة في العيون.

وتقودنا الذاكرة الى بدء اطفاءالانوار وتشغيل الفيلم ودخول المتأخرين في الظلام ومهمة الموظف "علوي" الذي يعمل على تجليس الناس على الكراسي الفاضية بعد القاء الضؤ بالكشاف اليدوي على الكراسي الفاضية ، وصوت من هنا وضحكة من هناك وصفارة زنقول ورجمة معرص في الظلام ونَزل رأسك شوية وأسكت بداالفيلم

وما ان يسود الصمت وتبدأ المشاهدة للفيلم ويصل العرض الى نصف الفيلم حتى ينقطع الفيلم فجاة ويتم وقف العرض وقص بعض المشاهد الساخنة بسرعة وتسرج الانوار ويعبر المشاهدين عن غضبهم من توقف البث وتتعالى الاصوات والتصفير والضرب على الكراسي مرددين " أما زلطنا ولا الكراسي" مايدفع موظف العرض الى اصلاح الخلل بسرعة واعادة بث الفيلم والهدؤ الذي يسبق العاصفة.

والطريف في الامر انه تم تحديد أيام للنساء لمشاهدة الافلام يوم الجمعة تقريباً في سينما بلقيس ، وكان بعض المتحررين يأتي بزوجته ومداعته ويحجز تذاكر في الدرجة الارقى " بلكون" ، بحسب ماحدثني الاستاذ والاديب عبدالله النخلاني ، بينما تحدث البعض ان نفس الحرية والانطلاقة في سينما بلقيس في مدينة تعز وعدد آخر ، كما تم افتتاح سينما " حدة وخالدة بصنعاء وكانت الارقى على غرار لبنان اواوروبا ، بينما كانت السينما الأهلية بزبيد أقدم ، أما عدن فقد كانت سباقة الى عصر وصناعة السينما من خلال افتتاح سينما شاهيناز، بخورمكسر في عام 1942م، من قبل رجل الأعمال (بيكاجي قهوجي)، وتخصصت بعرض الأفلام الأجنبية الغربية كأفلام شارلي شابلن الصامتة والناطقة معاً ، وتذكر عدد من المصادر ان عدد دور السينما بعد ثورتيْ سبتمبر 1962 وأكتوبر 1963 في اليمن بلغ نحو 49 داراً..

واللافت للامر ان السينما في عصر الامام أحمد حميد الدين ، قد دخلت اليمن ، بحسب ما ذكره الدبلوماسي الروسي د. أوليغ بريسيبكين في كتابه "اليمن واليمنيون في ذكريات دبلوماسي روسي"، أن السينما، مع شيءٍ يسيرٍ من الضيافة، كانت جزءاً هاماً من العمل الدبلوماسي ، ورغم إنها كانت محظورة في البلد، إلا أن بعض المقربين من حاشية الإمام أحمد، وفي المنازل الغنية، كانوا ينظمون عروضاً لأفلام السينما المصرية والهندية، في حلقاتٍ ضيقة وكانت الثقافة السينمائية محصورة في النُخب.

وأخيراً .. بعد التعليم والثقافة والمعرفة والابداع والادب والفن والشعر والصحافة والسياسة والمدنية وآلاف الخريجين في الطب والهندسة والقضاء والاقتصاد والجيش والامن ،،، ووسائل الترفيه والتنوير والتوعية يعود اليمنيون الى التخلف والجهل والعبودية والمناطقية والمذهبية والانقسام والتجزئة والعمالة والارتزاق والفقر بعد أن تآمرت مراكز القوى العابثة على بعضها وتحولت الى ادوات وبنادق تدق بعضها ، وكأنك يابو زيد ماغزيت ، فهل الخلل في المخ أو الجينات او الموروث الثقافي أم في سياسة التجويع وعصا تجار الحروب؟

shawish22@gmail.com

حول الموقع

سام برس