سلوى يحيى الارياني
كانت قريتنا عادية جدا مثل قرى كل الناس البسطاء. بيوتنا مثل قريتنا و مثل ساكنيها عادية جداً. بعض البيوت مدهونة باللون الأزرق أو الوردي و بعضها مبنية من الطوب و عارية من أي لون. يحيط بالبيوت و يتخللها مساحات شاسعة و كذلك مستطيلة من المزارع التي تتخلل المساحات بين البيوت. يلعب أطفالنا الكرة حفاة . فإذا سدد أحدهم هدف تقافزوا ملئ المدى و هتفوا حتى نسمع لهتاف فوزهم صدى. لدينا دكاكين تبيع الماء و الدخان و اللبان. أما نحن فمثل كل البشر في القرى نتخاصم و نتشاجر ثم سرعان ما نتصالح. إن سقط احدنا من ثقل الحمولات فوق كتفيه نهب لنزيح عنه و لو بأيادينا المشققة.

غير أن قريتنا كان فيها شيء مميز، لا بل مميز جداً لم نسمع بمثله في أي قرية أخرى. كان يتوسط قريتنا برج حمام شاهق الارتفاع ، تصل قمته للسحب فلم نراها يوما لكن رأينا الحمام يروح و يجيء إليها و أدركنا من ريش الحمام المتساقط أن سكان البرج حمام. كان الجميع يجهل حقيقة هذا البرج أو تاريخه. الجميع يجهل متى و من بناه. كان هديل الحمام يشكل مصدر سعادة في قريتنا. كان الحمام يجسد جمال رباني ، إذا ما رفعنا أعيننا للسماء نجد سحبنا أسراب حمام متكاتفة. كم ألهمت الشعر لأجدادنا، و ألهمت الغزل في جيل الشباب. كان الحمام فعلا نعمه خص الله بها قريتنا و بهجة للقلوب التي تئن حرمانا ، تعبا ، ،فقرا ، جهلا و مرضا.

كان شيخ قريتنا، كهل قبح الله وجهه لمغزى. لطالما تحاورنا نتناقش لماذا وجهه ليس مقبول الملامح فحسب بل يشعر الناظر إليه أن الله جل جلاله قبح وجهه من قبح أفعاله. لكننا لم نكن نعترض أو نتمرد عليه حالنا حال كل الناس العاديين.

صحونا صباح أحد الأيام و جارنا يصيح و يولول كالنساء عندما تمسهن مصيبة. كان لجارنا أرض واسعة يربي فيها الأبقار، الأغنام و الدجاج. كان شيخ القرية يجذب هذا الرجل الذي كنا نحترمه جميعا من قميصه و يأمره بإفراغ داره ، لملمة أمتعته و زوجته و أبناءه قبيل صباح الغد بحجة أنه قد قرر بناء جامع أسطوري فوق أرضه. شرح لنا أنه سيكون على جانبي مدخل الجامع محال تجارية راقية تبيع الثياب و العود و التمر. أوضح لنا أن الجامع و المحال سوف تجتذب الناس من القرى المجاورة لا بل و من المدن ، و أن الثروة التي سيتم ادخارها من أرباح المحال سوف تستخدم لتطوير الخدمات الأساسية في القرية. فرح البعض منا لهذه المشاريع و أحرجوا جارنا المصاب قائلين له أن اسمه لن يكون كاسم الجندي المجهول بل سيدخل التاريخ من أوسع أبوابه كالرجل الذي ضحى بداره و أرضه من أجل مصلحة القرية. فقد كنا تواقين للإنارة و الهاتف و لرؤية الثياب و العطور. قام أحد رجال القرية بإفراغ مخزن لدية يحتفظ فيه بالطحين و نذر تلك الغرفة لجارنا الحزين و لعائلته، و فتح باب لغرفته من الشارع حتى يشعر جارنا المجروح باستقلاليته.

كان شيخ القرية داهية في الذكاء لكنه كان ذكاء شرير. حيث كان يصبغ كل جرائمه بالصبغة الدينية لثقته بتعلق أهل القرية بالله و الإسلام. قاطع ولولة جارنا قائلا :- "موعدنا قبيل الصبح فافرغ دارك، أليس الصبح بقريب؟" فالأموال التي ستحسن القرية هي من المحال التجارية لكنه بدأ بالتحدث عن الجامع حتى يتحرج السامعين من الاعتراض أو مناصرة جارنا المغتصبة داره، بل تحرج جارنا نفسه. تابعنا بمزيد من اللهفة و الترقب بناء الجامع. حتى جارنا مسح دموعه و أخذ يتفرج على البناء و لعله كان يمنى نفسه أن ُيسمى الجامع باسمه، كيف لا؟ و هو البطل الذي نذر – و لو جبرا – داره و أرضه من أجل ازدهار القرية و راحة أهلها.

بدأ العمال بالبناء، فأجمعنا بعد متابعة البناء أنه سيكون جامع غريب للغاية. و كما قال جارنا المجروح :- " يا جماعة، أنا أتابع البناء منذ الصباح حتى قبل المغرب فلا أرى سوى صندوق كبير ترتفع جدرانه،فقط البلاط يدخل لموقع الجامع. أي جامع هذا؟ بلا أحجار، بلا خرسانة؟ بلا صومعة، بلا مئذنة طيب. أهو جامع أم حمام، لا يا جماعة لا، لا يوجد جامع جدرانه الخارجية بلاط و سقفه كله زجاج ؟!!" كنا نضحك منه، و نذكره بما يذكرنا به شيخ القرية دائما ألا و هو أننا قرويين لا نفهم شيئاً! بعد اكتمال البناء رفع الشيخ أسوار عملاقة تغطي الجامع بأسره فما عدنا نراه فقط رأينا 5 شاحنات تنقل خزانات مياه تدخل إلى موقع الجامع فبررنا ذلك انه للوثوق من طهارة المكان. ثم بدأ الشيخ و أقاربه و أنسابه يدخلون الجامع و كذلك صبيان من أحفاده أما القرويين فلم يسمح لأحد بالدخول إليه للصلاة. بمرور الوقت تأكدت لدينا نبوءة جارنا الحزين عندما كنا نرى الشيخ و أقاربه يدخلون الجامع مرتدين سراويل و الصبيان يحملون أطواق سباحة. مات جارنا المسكين بالجلطة . كان لموته بتلك الطريقة المأساوية دويا يصم الأذان لأنه كان دوي مكتوم إذ لم يجرؤ أحد على المجاهرة بالغضب لئلا يتهم بالتمرد على جامع أو لئلا يتهم بالكفر.

بعد تلك الحادثة توالت المصائب على قريتنا حتى بتنا لا نميز عددها و لا أسماء ضحاياها. أتذكر منها بضعة حوادث. حيث ُسرقت بقرة أحد مزارعي القرية فذهب شاكيا لشيخ القرية فأجابه :- " لا محالة أنها الحمام التي سرقت اليقرة!" رد المزارع :-" و كيف يحمل حمام بقرة؟" حملقنا جميعا في وجه المزارع حين عاد يروي لنا الحديث الذي دار بينه و بين شيخ القرية. جميعنا رفضنا التبرير السمج و لكن يا للغرابة البعض منا صدق!!

الحادثة الثانية كانت سرقة شوال من الطحين من أرملة مسكينة تسكن مع صغارها منذ وفاة زوجها و هي جارة لنا. ذهبت تطلب نجدة الشيخ فقال لها رافعا سبابته :- " انه الحمام ، الذي طالما قلتم فيه القصائد، تحملوا إذن! لا تشغلونني ، فأنا منهمك في جلب البضاعة من التمر و العسل ففيه شفاء لكل داء." قالت له :- " لكن كيف سيستطيع الحمام أن يرفع عن الأرض شوال طحين؟" نهرها بقسوة مؤكداً :- " لقد سرق بقرة يا بقرة ، فهل يتعسر عليه حمل شوال من الطحين؟" صاحت الأرملة التي كانت مشهورة أنها لا تهاب في قول كلمة الحق لومة لائم :- " هذا لا يعقل! قل كلاما يقبله العقل!" منذ ذلك اليوم لم نر تلك الأرملة و تشرد أولادها في بيتين ممن وجدوا في قلوبهم الرحمة و في رزقهم القدرة على إطعام أفواههم.

الحادثة الثالثة كانت اختطاف صبية من فراشها في دار أبوها. كانت الصبية في الثامنة عشر و ذاع صيتها كطاهية ماهرة لأصناف الطعام المختلفة و كذلك لخبز مختلف أنواع الخبز. خرج والدها كالمجنون في الصباح الباكر حافي القدمين يصيح بأن إبنته ليست في فراشها و أنه وجد قطعة ممزقة من ثوبها. نصحناه ألا يذهب للعاقل لأنه سيقول له أن الحمام أختطفها فكظم الأب حزنه حتى جن و بات يمشي في الليل حافي القدمين ، أسود الثياب ، أشعث الشعر يحرس بابه كل ليلة لئلا يدخل من يخطف ابنته .

بعد الحادث الثالث هذا بدأنا نحن رجال و شباب القرية نجتمع لنتحاور في سر هذا اللص الجديد. ما أن سمع شيخ القرية باجتماعاتنا حتى كثف الشائعات عن جرائم الحمام حتى ما عدنا نحصي الجرائم و لا أسماء أصحابها. قالت الشائعات أن الحمام جواسيس عميلة، تنقل أخبار أهل القرية للأعداء لكي يتمكنوا من غزوا القرية و هدم الجامع. كنا قد أجمعنا أن الجامع ما هو إلا حوض سباحة لكن الله امتحنا بوجود عدد لا يحصى من الأغبياء الذين يصدقون السخف و الكذب. قال البعض أن في ريش الحمام مرض سينتقل سريعا في رئات الناس و يقتل أهل القرية جميعا. قالت الشائعات أيضا أن الحمام يجب استثمار ريشه و لحمه بدلا من التفرج عليه و هو يؤذينا هذا الأذى العظيم. قالت القلة بل الحمام ...................رمز سلام. كنت أنا من أنصار هذا الرأي. صارحنا أحد شباب القرية أنه قد تسلل ليلا للجامع و تسلق جدرانه وأنتظر حتى وصول الشيخ و أسرته، فاسترق النظر من سقفه الزجاج فوجدهم يسبحون ، رأي كذلك بقرة المزارع التي ُسرقت يتم حلبها و تقديم حليبها ليشربونه بعد السباحة. كذلك رأي الفتاة ابنة جارنا الذي جن و هي تخبز من الشوال الذي تمت سرقته من الأرملة التي تم إخفائها قسريا. سمعناه مفتوحين الأفواه و محدقين الأعين!!! هكذا إذاً يا شيخ؟ تمتمنا كلنا همساً :- "إذن الحمام بريء؟" في تلك اللحظة حطت على مجلسنا سرب حمام أبيض كلؤلؤ . قالت لنا إحدى الحمام :-" هل ُيعقل أن تكونوا هكذا من الغافلين؟ ما نحن إلا حمام تنشد الحرية و الأمان لكم وقت كنا لا نسمع منكم إلا الشكوى و الأنين. هل ُيعقل أن تكونوا هكذا من الغافلين؟ أنه نحن الحمام من أراد أن يتقدم صفوف هذة القرية رجالاتها و شبابها الشرفاء و الأحرار،لا كهولها و لا أحذيتها ، لا و لا ذيولها. أنه نحن الحمام من أراد أن تدركوا كم كنتم أغبياء. أردنا أن تنطقوا عبارة " الله ما أغبانا" لكنكم للأسف أضعتم القرية و جعلتم منا الحمام ما تسمونه لبانة ! كيف صدقتم بأننا غرمائكم و أعدائكم؟ وافقتم على سيادة الشيخ الكهل الذي قبح الله وجهه لأن يده و أنتم تعلمون أنها نجسة، لكن باركتموها لأنها قوية، و لم تسألوا أنفسكم و لو للحظة منذ متى كان الذئب يحمي الضحية؟ لعنتمونا، ظلمتمونا ،و لو كان في قريتنا محكمة لرفعتم علينا قضية. "

حول الموقع

سام برس