بقلم/ عبدالباري عطوان
ماذا قال لي العاهل الأردني أثناء لقائي الأوّل به قبل 20 عامًا ويُمكن أن يُسلّط الأضواء على الأزَمة الحاليّة؟ وكيف ننظر للجانب الإيجابي في “حِراك” الأمير حمزة؟ وهل اكتملت المُصالحة الهاشميّة بزيارة جميع أفراد الأسرة للمقابر الملكيّة؟ وما هي أقصر الطّرق لإسكات المُنتَقِدين؟

عندما التقيت العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني للمرّة الأولى عام 1999، وبعد 40 يومًا تقريبًا من تولّيه العرش في حُضور السيّد عبد الكريم الكباريتي، رئيس ديوانه في حينها، والزّميل بسام البدارين، سألته عمّا إذا كان الوالد الراحل قد أفاده من تجربته وخبرته، وقدّم له بعض النّصائح حول كيفيّة إدارة الدّولة من بعده، كان ردّ الملك عبد الله صريحًا، وقال بالحرف الواحد، إنّه لم يَعِش بالقُرب من والده طِوال السّنوات العشرين الأخيرة، لأنّه كان جُنديًّا في الجيش العربي الأردني، يُشرِف على عمليّة تحديثه، وتأسيس “القوّات الخاصّة”، ويقضي مُعظم أوقاته بين الجُنود، يأكُل من أكلهم ويَشرب من شُربهم، ويتحسّس مُعاناتهم، ويُشاركهم هُمومهم وأفراحهم.
وأكّد أنّ تلك الفترة تُشكّل أهم فترات حياته وأسعدها، وربّما كان الاعتِراف نُقطة قوّة الملك عبد الله وضعفه في الوقت نفسه، نُقطة قوّته في التِفاف الجيش والأجهزة الأمنيّة حوله، ونُقطة ضعفه تتمثّل في عدم اختِياره البِطانة الصّالحة في بعض الأحيان.

عُدت إلى أوراقي ومُلاحظاتي حول ذلك اللّقاء، وأنا بصدد كتابة هذه المقالة حول “الزّلزال” غير المسبوق الذي ضرب الأردن الأسبوع الماضي، والتّداعيات التي ترتّبت عليه داخليًّا وإقليميًّا، وكادت أن تنعكس إلى نتائج خطيرة على أمن البلد واستِقراره لولا تطويقها بسُرعةٍ، أو هكذا نأمل.

دعونا نُسمّي الأمور بأسمائها الحقيقيّة، ونقول إنّ ما حدث لم يكن انقلابًا، فالانقلاب يحتاج إلى بنادق ودبّابات، ومدفعيّة، وضبّاط مُتآمرين، وبيان أوّل، كما أنّه لم يكن مُؤامرةً خارجيّة بكُل ما تحمله من معنى، لأنّ هذه المُؤامرة تحتاج إلى مُتآمرين، ولا نعتقد أنّ العشرين شخصًا الذين جرى القبض عليهم، ويُحرّك مُعظمهم الجشع للمال، ونحن نستثني هُنا الأمير حمزة الذي أظهر كُل الإخلاص والوطنيّة لبلده، وأسرته، لا نعتقد أنّ هؤلاء يُمكن أن يُغيّروا نظام حُكم، أو حتّى يُصلحونه، ولكن هذا لا يعني عدم وجود جِهات لا تُريد الخَير والاستِقرار للأردن بعضها خليجيّة، إلى جانب العدوّ الإسرائيليّ الأكبر.

ما حدث هو مُحاولة استِغلال للكثير من السلبيّات والأوضاع الداخليّة المُنهارة في البِلاد، لتوجيه الكثير من الانتِقادات المشروعة لها، ومن مُنطلق الحِرص، وليس مُنطلق الهدم، وخدمة أجندات خارجيّة، لأنّ صلابة الأردن ومؤسّسة الحُكم فيه ليست موضع شك، ولهذا جاءت الحُلول لامتِصاص الأزمة وذُيولها سريعةً وحاسمة، وكان أبرزها المُصالحة التي قام بها الأمير الحسن بن طلال، عميد الأسرة الهاشميّة الذي يحظى باحتِرام الكثيرين من داخِل الأسرة وخارجها، وهو الرّجل الحكيم الذي قدّم مصلحة الوطن على مصالحه الشخصيّة عندما التزم بيته، واستمرّ في ولائه للحُكم، رغم إعفائه من ولاية العهد بعد 23 عامًا من تولّيها.

دعونا نعترف بأنّ الشّعور الذي كانَ سائدًا وسط أهل الحُكم ونُخبته بأنّ البِلاد واحة أمن واستقرار كان شُعورًا مُضلّلًا، فما كان يبدو ورديًّا على السّطح طِوال السّنوات الماضية كان بمثابة قمّة جبل تلج تُخفِي تحتها جبَلًا من الإخفاقات والأزَمات والاحتِقان الشّعبي، والفشل الاقتصادي، فالاقتِصاد انكمش بنسبة 5 بالمئة في الأعوام الأخيرة، والبِطالة وسط الشباب زادت مُعدّلاتها عن 48 بالمِئة، و20 بالمِئة من الأردنيين يعيش على أقل من أربعة دولارات في اليوم، والعجز في الميزانيّة السنويّة يزيد عن مِلياري دولار، والدّين العام يفوق 42 مِليار دولار، والتّحويلات القادمة من نِصف مليون أردني يعملون في الخليج انخفَضت من 6 مِليار دولار عام 2014 إلى ثلاثة مِليارات العام الماضي، وربّما تتراجع إلى مِليار في العامين المُقبلين، لانخِفاض أسعار النفط، وعمليّات “التّسريح” المُتصاعِدة والمُتعمّدة، وفوق هذا وذاك انخِفاض المُساعدات الخليجيّة إلى ما يَقرُب الصّفر، وما يَصِل الأردن حاليًّا عبارة عن قُروض مُيسّرة وودائع في البنك المركزي.

الملك عبد الله ارتكب خطيئتين في نظر خُصومه في الخليج والمِنطقة الشّرق أوسطيّة، الأولى، رفضه إرسال قوّات للاشتراك في حرب اليمن، وكان قراره صائبًا، والثّانية، رفضه صفقة القرن التي كانت أكبر مُؤامرة على الأردن والقضيّة الفِلسطينيّة معًا، ولو فاز ترامب وصِهره جاريد كوشنر في الانتخابات الرئاسيّة لكان وضع الأردن على حافّة بُركان الوطن البديل، ولا ننسى تمسّك العاهل الأردني بالوصاية الهاشميّة، أو ما تبقّى مِنها على الأماكن المُقدّسة رُغم أهميّتها الرمزيّة.
العرش الهاشمي ما زال يحظى بشعبيّةٍ كبيرةٍ في أوساط مُعظم الأردنيين لأنّه عامل توحيد واستِقرار في مُحيط شرق أوسطي مُضّطرب، رُغم بعض الأخطاء الكبيرة، وأبرزها تراجع الحريّات، والانخِراط في مشاريع أمريكيّة مُزَعزِعة لأمن المِنطقة، وأبرزها التدخّل في سورية، وجاءت الأزمة الأخيرة بمثابة جرس إنذار قوي، للتّحذير من أزماتٍ أكبر ستنفجر إذا لم يتم الإصلاح الجدّي، فالتّعاطي مع الانتِقادات، ومُعظمها مُحِق، ليس بإسكات أصحابها، وإنّما بالاستِماع إليهم، واختِيار البِطانة الصّالحة، وإبعاد كُل المُنافقين والانتِهازيين.

هُناك مثل يقول إنّ الضّربة التي لا تقتلك تقوّيك”، وهذا المثل يجب أن يكون أحد أبرز عناوين المرحلة الأردنيّة المُقبلة، من حيث استِيعاب أبرز دروس هذه الأزمة والعمل بإملاءاتها حتمًا، ولعلّ هذه الزّيارة التي قام بها العاهل الأردني إلى المقابر الهاشميّة وضريح الملك الحسين بمُناسبة مئويّة الدّولة على رأس وفد يضم جميع أفراد الأسرة الحاكمة، بِما فيهم وليّ العهد والأمير حمزة، والأمير الحسن بن طلال، وكُل أُخوة الملك، هي تعميق للمُصالحة وبداية السّير في الطّريق الإصلاحي الصّحيح.

ربّما يكون حِراك الأمير حمزة مُفيدًا جدًّا للملك لأنّه فتح عُيونه بقوّةٍ على جُذور الأزمة، وأقصر السّبل لتحقيق اللُّحمة الضّروريّة بين العرش الهاشمي وكُل ألوان الطّيف الشّعبي الأردني ومِن كُل المنابت والأعراق، وفرض حتميّة الاستِماع إلى كُل الأصوات الشّريفة في الدّاخل والخارج دون إقصاءٍ أو تهميش.
هذه العُلاقة الوجوديّة بين العرش وقِطاع عريض من الشّعب اهتزّت بقُوّةٍ بسبب مُمارسات يجب أن تتوقّف، أبرزها توسيع دائرة المُشاركة الفِعليّة بالحُكم، وإهمال الطّبقات المَسحوقة، وتغوّل الفساد المالي والإداري، وإقصاء العناصر المُؤهَّلة.
الأردن بحاجةٍ إلى “صحوةٍ” في المجالات كافّة، وبسُرعةٍ وعمليّة تغيير حتميّ، ومثلما عفَا الملك عن شقيقه يجب أن يمتد هذا العفو عن الآخَرين أو مُعظمهم أيضًا، ولعلّ ورود الآية الكريمة “والكاظمين الغيظ.. العافين عن النّاس” في خِطابه المكتوب، تُنعِش الآمال في هذا الصّدد، والسّير في الوقتِ نفسه على خُطَى الرّاحل الملك الحسين.

الأردن الجديد يجب أن ينهض من وسط رُكام هذه الأزمة، وبأسرعِ وقتٍ مُمكن فالمخاطر كبيرة والمِنطقة تغلي.. واللُه أعلم.

نقلاً عن رأي اليوم

حول الموقع

سام برس