بقلم/ محمد الرميحي
على معرفة أن هناك من القضايا التي تهم القارئ العربي في هذه المرحلة وتفرض أولوية نقاشها، ما أذهب اليه اليوم، وإن بدا هامشياً للبعض، إلا انه جزء من علاقات عربية عليلة وهو الجزء الخفي بين بعض المثقفين العرب يعطل التواصل الصحي والتلاقح الفكري.

والقصة أن السيدين سامي كليب وفيصل جلول نشرا سلسلة من الكتب المتميزة اعطياها عنواناً موحداً هو رسائل ...، وهي زيارة مجموعة من المثقفين للمدن المختلفة زيارة نقدية وتفقدية، منها غربية ومنها عربية. الرسالة الخامسة كان عنوانها "الرسائل الخليجية" وقد ساهم فيها اثنان وعشرون كاتباً عربياً، والكتاب متاح على موقع أمازون.

الفكرة تثقيفية مفيدة، وهنا أنظر اليها من جانب منهجي، ليس للاعتراض ولا حتى العتب، ولكن من منظور نقدي مهني حيث ولجت التكليفات للكتاب من دهليز ضيق، فبعض الكتاب الذين كتبوا عن مدن الخليج وأقاليمه لم يزوروا المناطق التي كُتب عنها، حتى زيارة عابرة، كما أن كل الاثنين والعشرين كاتباً ليس من بينهم كاتب واحد (رجل أو امرأة) من دول مجلس التعاون التي تمت (زيارتها) في هذا الكتاب. الافتراض أن المشرفيْن على الكتاب لم يدُر في خلدهما ان هناك أقلاماً محلية وازنة كتبت عن بيئتها ومدنها، وهذا هو العيب المنهجي والذي يمكن أن يسمى الاستشراق العربي، فبعضنا لا يعترف بأن هناك نهضة إنسانية كبيرة جرت في نصف القرن الماضي في منطقة الخليج، وليس فقط نهضة بناء مدن وطرق وعمارات كما ذهب اليه الكتاب، بل نهضة بشر، فتم تجاهل ذلك تماماً. الظاهرة أوسع من الكتاب والمشرفين عليه، هي نقص أو ربما تجاهل لما تم من عمل غير مقارن في المنطقة لبناء رأس مال بشري هو الاحتياطي الاستراتيجي لكل تلك النهضة العمرانية التي وصفها الكتاب بين دفتيه. ما اذهب اليه معتمداً على عدد من المعطيات وهي أربع:

أولاً: شهد التعليم في الخليج قرابة قرن كامل حتى اليوم منذ أن بدأ التعليم الحديث، ولكن التعليم والتعلم لازما تلك المجتمعات، فقد كانت الاحساء في المنطقة الشرقية من المملكة العربية خزاناً لمجتمعات الخليج يستقي منه العلم زاده التقليدي في القرن التاسع عشر وكذلك الحجاز وعُمان، إلا أن النهضة الحديثة شهدت ثورة في المدارس والجامعات، عدداً ومستوى، وصلت الى أن يصبح الإنتاج العلمي من تلك الجامعات ما يساوي أو يفوق في بعض التخصصات ما لدى العواصم الكبرى في الإقليم، كما أصبح هناك في التخصصات مبدعون خليجيون في الطب والهندسة والتقنية والفلك والعلوم الصلبة والتطبيقية والعلوم الاجتماعية ما يشار اليه عالمياً. وعليه كان يمكن للمشرفين على الكتاب بقليل من الجهد العثور على شخصيات تساهم في ذلك الكتاب من منظور محلي، يعطي الكتاب صدقية أعلى من دون تجاوز من ساهم وشكراً لجهده.

ثانياً: التركيز على الحجر وتجاهل الجهد البشري يحمل خطأ منهجياً آخر، فتلك المدن اعتمدت في بنائها على عقول محلية ونظرة مستقبلية حملتها تلك العقول، ولولا ذلك الجهد البشري لم يتم بناء المدن وبهذه الطريقة التي أعجب بها المساهمون. لقد حاولت المجتمعات العربية منذ الاستقلال، من الشرق الى الغرب، الخروج من مأزق المراوحة للولوج الى العصر. كانت فكرة (التقدم) والتي تلح على النخب العربية بدرجاتها واجتهاداتها المتعددة متعسرة في المجتمعات العربية، فضاع وقت طويل وجهد في محاولة التحول من جانب زعماء الطوائف والعسكر والأحزاب الايديولوجية التي حكمت وعجزت عن الوصول الى عتبة النهضة، بسبب التطاحن الأيديولوجي وقدوم الحكام إما من المعسكرات أو من أوكار الأحزاب الايديولوجية، ففشلت التنمية وتوقف الدخول الى العصر. وفي المقابل استطاعت الدولة الوطنية الخليجية الحديثة أن تعبر ذلك الجسر بالكثير من النجاح، فتغير المجتمع والدولة واخترقت المجتمعات جدار الاستعصاء الى الحداثة بنجاح مع استمرار الهياكل والاحتفاظ برأس المال البشري، الذي لم يبدد كما شتت في مواقع عربية أخرى.

ثالثاً: لم يكن النفط السبب الوحيد في تلك النهضة، فبلاد مثل ليبيا والعراق والجزائر توافرت لها مصادر سخية منه، ولم يتحقق ما تحقق في الخليج، الفرق في الإدارة التي وفرت تلك المعادلة بين الأمن والسلام الاجتماعي والتنمية، والتوازن بين الحريات والاستقرار والتدرج في التحديث، فكان هناك تمثيل شعبي بدرجات مختلفة في معظم تلك المجتمعات يشارك في التخطيط، وهناك نهضة ثقافية تساهم فيها عقول عربية ومحلية، فعلى سبيل المثال هناك مجلات "العربي" و"الفيصل" و" الدوحة" و"عالم المعرفة" والمجلة الجغرافية المترجمة وغيرها من المنابر الثقافية المختلفة من المسرح وحتى الفنون التشكيلية الى المكتبات العامة بل ودور الأوبرا، ولو لم يكن هناك عقول خططت لها لما كان هناك مدن وإقاليم مزدهرة والتي تناولها الكتاب.

رابعاً: ليس تقليلاً من أهمية هذا العمل ولكنه ناقص نقص من هو قادر على الكمال وهذا معيب لأن ما يبطن ان الناس والبشر في هذه المنطقة هم في رأي المخططين للكتاب لا يتوجب أن يلتفت اليهم فهم (عرب الدرجة الثانية).

الدليل أمامنا عدد المشاركين الاثنين والعشرين لم يلتفت أحد منهم أثناء الاعداد ليقول ألا يوجد أنسان في هذه الدول قادر على المشاركة في الكتاب، أو أن ينوه في مقدمة الكتاب بان المحاولات في البحث عن مشاركين محليين قد تمت ولم تنجح، على الأقل سداً للذرائع، في حين أن كتب السلسلة الأخرى "رسائل مغربية" شارك فيها زملاء من المغرب، وكذلك "رسائل دمشقية" شارك فيه زملاء من سوريا وهكذا. الرسالة التي يحملها هذا الموقف لا تحتاج الى تفسير!!

نقلا عن "النهار"

حول الموقع

سام برس