بقلم/ حسن الدوله
الأهداء:
إلى صاحب الحرف السني والحلم الجميل، والرأي الحصيف والعقل المستنير المستشار أحمد علي جحاف

بداية نود التأكيد بأنه لم ينل مصطلح علمي من سوء الفهم كما نال مصطلح "العلمانية" حتى صار رديفا للكفر والإلحاد، ولهذا نجد البعض يهرب إلى مصطلح "الدولة المدنية" ، خوفا من تهمة الكفر، مع ان الاعتبار بالمعاني لا بالمباني وبالمقاصد والغايات لا بالمباني والألفاظ وكما يقول الأصوليون لا مشاحة في الاصطلاح، وعلى كل حال فقد جارينا الفريق الاخير عند كتابة العنوان بالرغم من أن اربعة اخماس دول العالم اصبحت دولا علمانية، تنعم بمزايا التعايش الديني ؛ ويؤدي المتدينوت طقوس عباداتهم لله كل حسب ما يأمره به دينه ؛ فالمسلمون يتمتعون بحرية المعتقد في تلك الدول افضل بكثير من بلدانهم ؛

فلو خيرنا مسلما العيش في بلده أم في دول الغرب العلماني؟ لأختار الأخيرة حيث ينعم الإنسان فيها بالحريات والعدالة والمواطنة المتساوية بغض النظر عن الدين والعرق، وما من دولة علمانية إلا وسبق لرجال الدين فيها أن شنوا حملات شعواء ضدا على العلمانية ودعاتها، بمعنى أن إشكالية فصل الدين عن الدولة سبق وأن ظهرت في 80% من دول العالم ، حتى لمس المتدينون عمليا نعمة توقف الحروب الدينية التي حصدت ملايين البشر ؛ في حروب عبثية بإسم الله ؛ ومن منطلقات ما انزل الله بها من سلطان، فاستأنسوا بافكار من يعتبرون فكرهم هرطقات وهم ابن خلدون وابن رشد وابن المقفع وغيرهم من فلاسفة الاسلام فتوصلوا إلى ان الدين لله والوطن للجميع.

وبالتالي فإن مصير بقية دول العالم ان تمضي في نفس الركب إن عاجلا أو اجلا وسوف يعاد الاعتبار لهذا المصطلح كما رد لغيره من المصطلحات الإعتبار كما الديمقراطية التي انتقل من مصطلح كفري إلى مصطلح مطلبي لدى كل شعوب العالم اليوم..

والغريب ان البعض من المثقين يسيرون في نفس خطى الكنيسة التي تؤمن بالثيوقراطية: والغريب ان رجال الدين يؤمنون بان الدول العلمانية متقدمة ؛ وبما انهم يكفروا بالعلمانية، وهم بذلك يجعلون الكفر سببا للرخاء والتقدم والتعايش السلمي، والاسلام سببا للتخلف ولعمري بان هذه قسمة ضيى او ضيزاء..

على كل حالة فانه يحق للدولة التدخل في الخيارات الدنيوية للفرد أو الجماعة، وفقاً لمتطلبات أمن المجتمع والالتزام بمقتضيات النظام، لكن ليس من حق الدولة التدخل في خيارات الفرد الدينية، لأنها لا تملك ضوابط ومعايير هذا التدخل، وهو حق من حقوق الله وحده وذلك لأن مثل هذه التدخل لن يؤثر في كل الأحوال في مآله في الآخرة. حيث الله وحده الذي يعلم من ضل من عباده ومن اهتدى.

فأمر ذلك المآل يعود إلى الله وحده علام الغيوب. وأما الدولة فلا يعنيها الأمر الأخروي بل تتعامل مع الفرد كعضو في جماعة له مالها وعليه ما عليها بغض النظر عن علاقته بالله، وما إذا كان مؤمنا ام غير مؤمن فذلك لا يغير من حقوقه كعضو في المجتمع، وإذا ما تدخلت الدولة في هذا الشأن لأي سبب كان فهو تدخل دافعه أو هدفه سياسي أو دنيوي بشكل عام، وليس دافعاً أو هدفاً دينياً.

بل إن هذا التدخل ربما يصطدم بآيات في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: "لست عليهم بمسيطر". وقوله: "لكم دينكم ولي دين" وقوله: "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" وقوله: "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين".

ولكن مما يؤسف له ان رجال الدين الاسلامي تبنوا نفس الخطاب الكنسي الذي اعتبر العلمانية رديفاً للكفر، وبالمقابل تبنى بعض العلمانيين نقد الدين بل وجعلوا منها ديناً او بالأصح ايديولوجية مضادة للدين، فأساؤا للعلمانية كما اساء الاشتراكيون العرب حين استبدلوا الصراع الطبقي من صراع بين الطبقات إلى خلاف مع الله.

وهنا نتساءل هل الكفر الذي يظهره بعض دعاة العلمانية بالنسبة للمسلمين هو بمقتضى المعايير العقدية والفقهية الإسلامية كما يفهمها هؤلاء السلفيون؟ أم أن هذا الكفر هو بمقتضى المعايير ذاتها في المسيحية كما يفهمها أصحابها؟.

وإذا كان المعيار في الحال الأولى هو المنطلق والمرجع في الحكم، فمعنى العلمانية في هذه الحال، وما يترتب على هذا المعنى من انحراف عقدي، هو معنى محصور في حدود الفهم الذي ارتضاه المسلمون، وتواضع أغلبهم عليه للقرآن والسنة النبوية، وبما أنه محصور في هذه الحدود الثقافية، وضمن أطر النسبية المعرفية لمن يقول به، فإن هذا الفهم يكون طبق على العلمانية معايير واستدلالات من خارج سياقاتها التاريخية والثقافية والمعرفية.

وهنا تبرز المغالطة، أي الحكم القيمي على ثقافة وتجربة تاريخية معينة وفقاً لمعايير وقيم تنتمي لثقافة وتجربة تاريخية مختلفة تماماً. وهذا يتعارض تماماً مع المنهج العلمي. بعبارة أخرى، التحليل والاستنتاج الذي أفضى إليه في هذه الحال هو تحليل ديني، وليس تحليلاً علمياً.

وبما أنه كذلك، فهو تعبير عن تحيز ثقافي وأخلاقي ضد ثقافة وقيم أخلاقية مغايرة. وهذا طبيعي ومقبول ضمن هذه الحدود. لكنه ليس حكماً، أو استنتاجاً مبنياً على أسس ومنهج علمي.

أما إذا كان المعيار في الحال الثانية هو المنطلق، وهو المرجع في الحكم، فينبغي عندها ملاحظة أن الكتاب المقدس الذي كان في عصور الظلام يعتبر أن تحالف الكنيسة مع الملك أو السيد إنما هو تعبير عن الإرادة الإلهية، هو الكتاب نفسه الذي لم يجد في العلمانية في العصور اللاحقة ما يبرر وصمها بالكفر والإلحاد. ومقتضى ذلك أنه كانت لهذا الكتاب قراءتان متناقضتان كل منهما تنتمي لعصر، ولمرحلة تاريخية تختلف عن الأخرى. أي هاتين القراءتين أصوب، وأقرب إلى منطق الأحداث والتاريخ من الأخرى؟ القراءة الثانية هي الأصوب لأنها تنطلق من بدهية أن النص، أي نص، بما في ذلك النص الديني لا يمكن أن يكون منغلقاً على قراءة واحدة.

لهذا النص بحكم الطبيعة أكثر من قراءة. لم تكن هذه البدهية معترفاً بها في عصور الظلام. والعالم الإسلامي في أغلبه لم يعترف بها بعد.

انطلاقاً مما سبق يلوح في الأفق سؤال لا بد من إنزاله على أرض الواقع ومواجهته كما هو.

هل أن مسألة فصل الدين عن الدولة، أو الدين عن السياسة، مسألة تخص التاريخ الغربي، أو التاريخ غير الإسلامي فقط؟ أم أنها مسألة اجتماعية سياسية تظهر في كل مجتمع إنساني بصيغ وأشكال مختلفة تعكس اختلاف الخصوصية التاريخية لكل مجتمع؟.

من الممكن القول إن «العلمانية» هي الصيغة التي استقرت عليها هذه المسألة في المفهوم الحديث للدولة في الغرب وفي الشرق أيضاً. وأن هذه «العلمانية» ليست أكثر من صيغة من صيغ عدة للمسألة نفسها. وتبعاً لذلك من الممكن القول إن هذه الصيغة تخص تلك المجتمعات من دون غيرها، خصوصاً المجتمعات الإسلامية. لكن وتبعاً لذلك، فإنه ليس في التجربة الغربية، والعلمانية التي تمخضت عنها، ولا في خصوصية هذه التجربة، ما يفرض أن يستنتج من ذلك أن مسألة فصل الدين عن الدولة، أو تمييز الديني عن السياسي لا وجود لها، ولا معنى في تاريخ المجتمعات الأخرى، بما في ذلك المجتمعات الإسلامية.

طبعاً من المعروف أن مثل هذه الفرضية مرفوضة مسبقاً في العالم العربي. وأنا أقول العالم العربي لأن تركيا تحت حكم حزب إسلامي (العدالة والتنمية) منذ أكثر من عقد من الزمن تقبلت العلمانية، وباتت مهيأة بغالبيتها الإسلامية للتعايش معها.
ويبدو أن هذا الحزب لا يرى أن هناك أي تناقض بين الإسلام والعلمانية. بل يرى إمكان تجسير الهوة المفهومية بينهما. وهذا على رغم أن هذه العلمانية فرضها أتاتورك ابتداء بالقوة والإكراه، وهي علمانية متطرفة تختلف في تطرفها عن العلمانية في الولايات المتحدة الأميركية، على سبيل المثال، وقد كانت تونس هي الاستثناء حيث مضت في نفس الخيار التركي بفض وعي حزب النهضة الذي اعلن انفصاله عن تنظيم الاخوان المسلمين الدولي معتبرا الهوية التونسية فوق كل الهويات ، وإذا كان السجال حول الدولة، مفهوماً وتجربة، وتحديداً حول العلمانية، لم يتوقف في الغرب منذ عقود طويلة، فمن الطبيعي أن يستمر هذا السجال في العالم العربي. وذلك لأن الدولة (أيضا تجربة ومفهوما كموضوع للعلمانية) كانت ولا تزال الأس الأول للمأزق...

والله من وراء القصد.

حول الموقع

سام برس