بقلم/عبد الحليم سيف
فتحت الوتساب ظهر يوم السبت الماضي، على خبر صادم ومقتضب ، تلقيته من الزميل الأستاذ القدير الصحافي المخضرم والنقابي العريق واثق أحمد شاذلي ..، أفاد أن عبد العزيز نجل الزميل رياض شمسان أتصل به هاتفيا وابلغه بوفاة والده.

هذا الخبر الفاجع ترك غصة في الحلق، واحزنني كغيري من الزملاء والأصدقاء ، فقد غادر الزميل العزيز والإنسان النبيل رياض صالح شمسان الحياة الفانية إلى دار الخلود، ففي صباح السبت السادس من نوفمبر 2021م، فاضت روحه إلى باريها متأثراً بإصاباته بالتهاب رئوي حاد.. ليوارى جثمانه الثرى ظهر اليوم في مقبرة الرحمة بسعوان /صنعاء وليس في القاهرة أو عدن ،كما ذهبت بعض المواقع الإخبارية.

ومن مفارقة القدر ؛أن يتوقف قلب الزميل رياض - رحمة الله تغشاه- عن النبض، بعد مرور يومين فقط من ذكرى عيد ميلاده ال (77) دون أن يحتفل مع أسرته وزملائه ومحبيه، كما كان يفعل سنويا..بيد أن أولاده ، عَزٌ عليهم أن يشعر أبوهم أن تمر هذه المناسبة العزيزة، دون ان يسمع أو يشهد أي مظهر للفرح..، فكان أن اتفقوا على تقديم الهدايا لوالدهم الكريم حبا وتعلقا به..، هذا ما عرفته من خلال نجله العزيز عبد العزيز رياض.

*
كم هو مؤلم ..وكم هو متعب أن يرحل الطيبون في -زمن الحزن اليمني الشامل ..؛ والأشد إيلاما أن تفقد زميلاَ عزيزاً عليك دون كلمة وداع ؛أو نظرة أخيرة ؛فلا قاعات للعزاء تقام ؛.ولا مرثيات تكتب وتنشر ؛ وكأن الأقلام قد جف مدادها..؛ ودموع العيون نضبت مآقيها ؛فلم تعد بمقدورها أن تسيل؛ لكثرة مانزفته لفقدان أحباء اختفوا تباعا؛ في ظروف عصيبة خالية من الشفقة؛.. ولم يكن رحيل الزميل والإنسان رياض صالح شمسان، بعيداً عن هذا الواقع المتشح بالسواد ؛الغارق بالدم في خضم حرب عبثية فاجرة ؛ فقد غادرنا هو الآخر في زمن القهر والاكتئاب ،توارى بجسده بصمت؛ وهو الذي كان يملأ الحياة ابتسامة وحركة وتفاعلا، خلاقا مع المحيط الخاص والعام..توقفت شفتاه عن ترديد كلمة المحبة..تاركا حسرة في قلوب أسرته العزيزة وكل زملائه وأصدقائه ومن عرفه.
*

ما إن بدأت الكتابة عن الزميل المرحوم رياض شمسان، بعد سويعات من رحيله حتى تداعت في مخيلتي صورته البهية وأناقة مظهره..وحركاته التي لا تعرف السكون.. و"مشاكساته الملحية"..وشيء من هذا القبيل، تحتفظ ذاكرتي بتفاصيلها في الطابق الثاني من مقر صحيفة الثورة اليومية، الواقع في الدور الثاني، من مبنى الإدارة العامة لمؤسسة الصحافة والأبناء بشارع المطار/ الجراف (مؤسسة الثورة للصحافة والطباعة والنشر حاليا...) وفي الطابقين: الثالث والرابع من المبنى الجديد للصحيفة .. إلى حيث الذكريات أغزر وأطول..،فقد تزاملت وإياه مع أساتذة وزملاء في مختلف مفاصل العمل الصحافي والفني والإداري، منذ عرفته لأول مرة بداية 1982م...وفي خضم العمل اليومي لطالما اختلفت الآراء بيننا..وتشابكت المواقف والتصورات حول أسلوب الأداء ووسائله؛ في ظل أجواء حساسة ؛في صحيفة حكومية يومية، تخضع لقوانين ولوائح وتعليمات وسياسات من صنع السلطات الرسمية وما أكثر رؤوسها... (!) ..ومع ذلك كنا نتفق بروح المحبة والزمالة والتضامن المهني والعلاقات الإنسانية الحميمية..إذ كان ينتهي "الصياح" الذي يفرضه حدث ما، ليس من صنعنا طبعا ، بضحكة ودودة لها معناها ومغزاها ،أهمها أننا كنا نشعر بوجودنا في نفس القارب..دون التورط في صراعات الساسة وكواليسهم.!! وتلك العلاقة بين زملاء الحرف وأرباب القلم أهم ماتبقى لنا في الذاكرة والوجدان لأيام الزمان الجميل،الذي أفل ولم يعد.

بين لحظة مولده في الشيخ عثمان عدن في 4 نوفمبر 1944م وحتى أن وافته المنية في صنعاء يوم 6 نوفمبر 2021م، تقف 77 عاما.. هي كل رحلة الزميل رياض شمسان رحمه الله..محطات متنوعة، مليئة بالأحداث المفرحة والمحزنة ..كل واحدة منها، لها ظروفها السياسية والاجتماعية والمادية ونحوها.
تقول سيرته الذاتية..أن ابن حافة الهاشمي في الشيخ عثمان، نشأ وترعرع في مدينة عدن.. وتلقى تعليمه في مدارسها الابتدائية والمتوسطة والثانوية.. وبعد تخرجه مع الدفعة الطلابية الأولى من ثانوية خورمكسر عام 1962م ، عمل مدرساً للغة الإنجليزية في عدد من مدارس المستعمرة البريطانية وقتذاك..منها مدرسة النهضة العربية في الشيخ عثمان، التي تم دمجها مع كلية بلقيس عام 1963م.

وتلقى الفتى رياض شمسان العديد من الدورات التدريبية في مجال التدريس.. وفي عام 1966م. اجتاز بنجاح دورة تدريبية مكثفة لمدة ستة أشهر في مجال إعداد وتقديم وإخراج البرامج التلفزيونية في التلفزيون المصري بالقاهرة..وعمل فقيدنا مذيعاً في إذاعة عدن في الستينيات لمدة عام قبل الاستقلال.. وفي تلك الأيام كانت له بعض الكتابات في مجال الفن والرياضة المنشورة في الصحف العدنية.

الذين عرفوا رياض شمسان عن قرب، يعلمون أنه اندمج مع لعبة السياسية في عدن في شرخ شبابه، عندما انضم إلى صفوف جبهة التحرير جنوب اليمن المحتل، عقب ظهورها عام 1964م. منشغلا بالجانب الإعلامي..، و شهد الصدمات الدامية بين الجبهتين القومية والتحرير..التي شهدتها مدينتا الشيخ عثمان والمنصورة في عام الاستقلال 1967م، ومن نتائجها انفراد الجبهة القومية بحكم الجنوب اليمني؛ وإقصاء جبهة التحرير..وفي حين نزح إلى تعز والحديدة وصنعاء المئات من رفاقه في التحرير والتنظيم الشعبي التابع لها.. فضل الفقيد رياض شمسان البقاء في عدن، وظل صوته مرفوعاً مهاجماً حكومة الجبهة القومية..، ليجد نفسه بعد قيام "حركة 22 يونيو التصحيحية 1969م"، التي أقصت أول رئيس لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية المرحوم قحطان محمد الشعبي، معتقلاً في سجن المنصورة..حيث بقي فيه نحو ستة أشهر ثم أفرج عنه..، وفي يناير 1970م ، قرر ترك أسرته ومدينته عدن إلى شمال الوطن. .ليحط رحاله في صنعاء ..وفي الأشهر الأولى من محطته تلك، انخرط مجدداً في لعبة السياسة من بوابة الإعلام مع جبهة التحرير.. الا أنه لم يستمر..فكتب مذكراته بما لها وماعليها عن تلك التجربة النضالية في مسيرة حياته..وقبل نشرها صادرها عليه مدير الأمن الوطني محمد خميس، وتم اعتقاله..واُفرج عنه، ليلتحق موظفا في قسم الصحافة بوزارة الإعلام والثقافة في صنعاء. وهو القسم الذي كان يصدر صحيفة الثورة اليومية الحكومية.

والذين يعرفون رياض شمسان أيضاً، يعلمون أنه كان أشد ولعاً بصاحبة الجلالة فقد قضى منها نحو 55 سنة بأقل أو أكثر بين أشرطة الإذاعةوالقلم والورق والصحف طوال حياته ..،كان بمثابة أرشيف متحرك، تشاهده حاملا أو جالسا وأمامه أكياس بلاستيكية، منفوخة بمواد صحفية، كيس مخصص للصور الفوتوغرافية الشخصية والخبرية ..و كيس ثان لقصاصات صحفية.. وثالث لمقالات ومشاريع بخط يده.

ومن ملامح عمله الصفحي..، كان له بين عام 1976+1975عمودان في" الثورة " بعنوان" بيني وبينك" والآخر" كلمة لوسمحت "..، وعندما تأسست مؤسسة سبأ العامة للصحافة والأنباء في العام 1975م، في عهد الرئيس الشهيد إبراهيم محمد الحمدي ..وأيام تولي وزير الإعلام والثقافة الأستاذ المرموق يحيى حسين العرشي ..كان الزميل رياض شمسان عضوا في قسم الترجمة الأجنبية في وكالة سباء للأنباء مع زميله عبد المعين عبده ردمان برئاسة الأستاذ جعفر محمد جعفر (*) .

وفي فترة لاحقة من نهاية سبعينيات القرن المنصرم، عمل رياض شمسان مرافقا صحافيا لرئيس الوزراء الأستاذ عبد العزيز عبد الغني رحمه الله..وبعد تولي الأستاذ عبد الغني رئاسة مجلس الشورى في دولة الوحدة اليمنية كان رياض شمسان، الصحفي الخاص له.

وخلال عمله في الثورة، كان رياض شمسان منذ 1981م. يعد صفحة أسبوعية، تظهر كل يوم جمعة بعنوان "فنون" إلى جانب عمله في قسم التحقيقات، منذ عام 1983م ..وتولى رئاسة هذا القسم في عام 1998م. وقبل ذلك عين نائبا لرئيس تحرير مجلة معين الشهرية..حتى أصبح منذ 2004 تقريبا مديرا لصفحة شؤون المحافظات في صحيفة الثورة .

*
وتبقى قصة الزميل الراحل رياض شمسان مع الصحافة الخاصة، من أهم تجاربه..التي لا يمكن تجاوزها..ففي منتصف سبعينيات القرن الماضي ،تحقق حلمه بأن يملك صحيفة ويرأس تحريرها..، فيصدر في صنعاء عام 1975م " الشروق " وزين ترويستها بشعار جذاب " متع عينك بأضواء الشروق "..إلا أن الصحيفة لم تكن منتظمة، فتوقفت بسبب التمويل ، شأنها شأن كل الصحف الخاصة، او ماتعرف بالأهلية ..، حتى عاودت "الشروق" ظهورها مجددا بعد الوحدة وتحديدا في 1990/11/22م ، كصحيفة شهرية سياسية فنية تنموية شاملة مستقلة.

وبعد سنة ونصف، يشهد الشارع الصحفي اليمني أول بادرة من نوعها بعد الوحدة ، تمثلت باتفاق الأستاذين صالح الدحان و رياض شمسان على دمج صحيفة البورزان (*) والشروق في صحيفة واحدة بإسم "بورزان الشروق" ، كصحيفة نصف شهرية مؤقتا.. وشعارها :" مع اليمن أولا ، وللعروبة أبدا، واليمن والعروبة والإنسانية دوما".. وعلى الرغم من أن المبادرة حظيت بترحيب معظم الصحافيين اليمنيين إلا أن الصحيفة توقفت بعد صدور العدد- اليتيم- التجريبي؛ بسبب دخول طرف ثالث؛ لم يرق له تلك المبادرة ،؛بحسب ما أخبرني الزميل رياض شمسان..،ليعود من جديد ليصدر "الشروق" وإن لم تكن منتظمة في موعدها ظهورها..لأسباب مالية بحتة!!
وثمة حقيقة لا يمكن إغفالها ، وهي أنني عرفت رياض شمسان كريما، فعندما يحصل على مكافأة أو يصدر صحيفته لا يبخل مع من يستكتبهم من الزملاء.. أو يتعاونون معه في الجمع والإخراج وحتى المراسلين الإداريين ..وكان قنوعا أيضا.. فمثلا يكتفي بما يحصل عليه من عائدات الإعلانات والتهاني بالمناسبات الوطنية والجماهيرية - وهي بالطبع مبالغ محدودة - فيوزع "الشروق" بالمجان.

أكتفي بهذا القدر من ملامح سريعة لمسيرة فقيد الصحافة اليمنية الأستاذ الزميل رياض صالح شمسان رحمة الله تغشاه. وطيب الله ثراه، وأسكنه فسيح جناته .

------------------------

(*) ظهر العدد الأول من البورزان في 1990/11/18. كصحيفة شهرية سياسية ..لصاحبها ورئيس تحريرها الإستاذ صالح الدحان رحمه الله، ومدير تحريرها العام (المرحوم) أمين عبده الحزمي.. وفي مرحلة اخرى انضم على الحزمي كسكرتير للتحرير، وقد ازدانت البورزان بشعار صارخ :"نفير يجمع وصدى يرجع".. وأفرد شيخ الصحافة اليمنية الأستاذ الدحان نصف الصفحة الأخيرة مقلوبة،وذلك تعبيرا عن أوضاع البلد المعكوسة ..وتوقفت الصحيفة عن الصدور عام 1994.

(**)راجع قرار رئيس مجلس إدارة المؤسسة العامة للصحافة والانباء وزير الاعلام والثقافة رقم 6 لسنة 1976م الخاص بإسناد الوظائف إلى العاملين في المؤسسة ، المنشور في كتاب" 40 سنة صحافة: الثورة النشأة والتطور، لعبد الحليم سيف محمد، ص215-209، الصادر عام 2000م.

حول الموقع

سام برس