بقلم / سعدية مفرح
ربما لا يفهم كثيرون خارج الحالة الكويتية معنى الأسى الذي عاشه الكويتيون على اختلاف توجهاتهم الثقافية والفكرية والسياسية مساء أمس الأحد بعد أن بلغهم نبأ رحيل الدكتور!

والدكتور عندما يلفظ مجردا من أي اسم لاحق له فهو يعني الدكتور أحمد الخطيب، الرمز الكبير في حياة الكويتيين جميعا وكثير من العرب، والذي رحل عما يزيد عن تسعة عقود من الزمن قضى معظمها في العمل العام منذ أن تخرج من كلية الطب في الجامعة الأمركية في بيروت بداية الخميسنيات من القرن الماضي ليكون أول طبيب كويتي في التاريخ، حيث عاد بعد تخرجه بوعي سياسي نوعي، وثقافة فكرية عالية، متسلحا بشهادته في الطب البشري التي استثمرها في خدمة الفقراء والمعوزين حيث كانوا يقصدون عيادته الخاصة لينعموا بعلاج مجاني على يدي الطبيب الذي لم ينشغل عنهم يوما رغم ما ألقي على عاتقه من مهام سياسية كبرى ليس على صعيد وطنه الصغير وحسب ولكن على صعيد الأمة بأسرها.

والخطيب الذي أسس قبيل تخرجه من الجامعة مع بعض من رفاقه العرب وهم وديع حداد وجورج حبش وهاني الهندي، حركة القوميين العرب في العام 1952 م، سرعان ما عمل على نشر أفكاره التحريرية والتقدمية بين الكويتيين ما ساهم في رفع الوعي السياسي لدى شعب عاشق للحرية ومطالب دائم بالمشاركة في رسم ملامح السياسة العامة لوطنه تجلت في أكثر من تجربة كانت تناوش الديمقراطية بتشكيلات ممنهجة منذ العام 1938، أدت في النهاية الى قيام المجلس التأسيسي بعيد نيل الكويت لاستقلالها من الاحتلال البريطاني في العام 1961 م.

وتعبيرا عن حجم الطموح الذي تطلع إليه في تلك الفترة، كتب في مذكراته لاحقا: “عدت (إلى الكويت بعد التخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت) محملا بمشروع قومي واعد كنت أرى فيه خلاص الأمة من الضياع والتشتت”. ورغم أن المشروع لم ينجح كما أراد له صاحبه، إلا أنه ساهم على الأقل في زرع ذلك الحلم بنفوس كثيرين رأوا فيه نموذجهم الأمثل في سبيلهم نحو خلاص الوطن والأمة.

وكان للخطيب على حداثة سنه آنذاك دورا كبيرا في حماية استقلال الكويت إذ سافر الى مصر لمقابلة الزعيم جمال عبد الناصر حيث شرح له طبيعة التهديدات التي يواجهها الوطن المستقل توا من قبل رئيس العراق آنذاك عبد الكريم قاسم بضم الكويت إلى العراق، ما أدى الى تعهد عبد الناصر بالمساهمة بحماية الكويت وهو ما حدث فعلا لاحقا.

وفاز الخطيب بأول انتخابات عامة في الكويت بعد أن قرر أمير الكويت الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح أن يؤسس نظاماً ديمقراطياً، ووضع دستور دائم للبلاد يكتب الشعب بواسطة ممثليه، فتقرر حينها إجراء انتخابات لاختيار أعضاء للمجلس التأسيسي المكلف بصياغة الدستور، فخاضها الخطيب وحاز على المركز الأول، وبعد ذلك ترشح لمنصب نائب رئيس المجلس التأسيسي وفاز به، وبعد إقرار الدستور انخرط في الحياة البرلمانية ممثلا للشعب في أكثر من دورة قبل أن يعتزل العمل السياسي في العام 1996، مخلفا وراءه إرثا ضخما من العطاء في مختلف المجالات لصالح الشعب الذي أحبه وعبر عن حبه له وثقته به بإعادة انتخابه مرات ومرات. ولم يخذل الخطيب جماهيره أبدا فقد انحاز لهم على الدوام مطالبا بحقوقهم بقوة بلغت حد الشراسة التي جعلته على رأس المعارضة الكويتية في كل مراحلها في الحياة السياسية الحديثة في الكويت.

واليوم، ونحن نودع الدكتور، فإننا نودع رمزا فريدا في مواصفاته الرمزية الطالعة في عمق الشابعة والنابتة في طين الأرض، فقد ساهم الخطيب بإعادة تعريف فكرة الرمز السياسية بعيدا عن صورتها الخليجية المتكئة غالبا على الزعامة الوراثية والامتياز القبلي أو العائلي. فلم تكن وراء الخطيب أسرة مرموقة ولا قبيلة كبيرة بل خلق رمزيته السياسية العالية بنفسه عبر انحيازه الدائم لقضايا الشعب والأمة بكل تحولاتها ووفقا لكل المنحنيات التي مرت بها، ساعدته في ذلك شجاعته الكبيرة في مواجهة واقعه وقدراته الفردية المتميزة في التغلب على كل العراقيل التي واجهته بالإضافة إلى ثقافته العالية ووعيه الكبير والمبكر ما جعله أحد أهم نماذج المثقف العضوي والمشتبك بهموم مجتمعه على الصعيد العربي كله.

ورغم أن الكويت أنجبت سياسيين كثر يمكن إدراجهم في صفوف المعارضة السياسية تاريخيا إلا أن الخطيب تميز دائما بفرادة سماته الشخصية التي جعلت من ابن الأسرة الفقيرة المكافحة زعيما للمعارضة وفي الوقت نفسه طبيبا شخصيا لأمير البلاد آنذاك الشيخ عبد الله السالم الصباح، وبين الحالين بقى دائما مناضلا شعبيا حقيقيا ومدافعا صلبا عن كل الفئات المسحوقة متجاوزا صرامة التقاليد الاجتماعية والسياسية في انحيازاتها الفئوية والعائلية والقبلية والطائفية أحيانا، لصالح تكريس المساواة بين النساء والرجال وبين جميع المواطنين على اختلافاتهم الموروثة والمكتسبة، ما ساهم في تكريس رمزيته باعتباره أحد السياسيين النادرين الذين ثبتوا على مبادئهم العامة منذ البداية وحتى الرحيل، فلا يهادن ولم يتنازل ولم يخضع يوما، بل بقي ذلك الشامخ الذي كان يحلو له استقبال ضيوفه في مكتبه بجريدة الطليعة والذي تزينه صورة كبيرة لأبي الدستور الكويتي الشيخ عبد الله السالم الصباح، في إشارة منه إلى قيمة هذا الدستور كمدماك أساسي للحلم الديمقراطي الذي عمل على اكتماله دائما. وعلى هذا الصعيد أتذكر أنني عندما قابلته للمرة الأولى في حياتي وطلبت منه التقاط صورة مشتركة حرص لحظتها على أن تكون صورة الشيخ عبدالله معنا في المشهد، وعندما سارع كثيرون بعد رحيله بدقائق لنشر صورهم معه مصحوبة بالتعازي اكتشف الجميع أن المشهد كان موحدا، فحارس الدستور كان يحتفي بصورة أبي الدستور ليجعل من الحلم الديمقراطي المكتمل يقينا في نفس كل كويتي!

وفي مذكراته التي صدرت في العام بعنوان: الكويت من الإمارة إلى الدولة.. ذكريات العمل الوطني والقومي”، والصادرة في العام 2007 حاول صرح المعارضة الكويتية وقطبها الكبير أن يعيد كتابة التاريخ الكويتي الحديث بعين النقد كما اعتاد دائما في الإطار العربي والمراحل التي عاشها الوطن الكبير بهمومه ونكباته ونكساته هنا وهناك.

رحم الله الدكتور أحمد الخطيب، الذي كان صرحا من جلال فسما بجيله وبأجيال كثيرة لاحقة على سبيل الأمل بأوطان حقيقية حرة.. تحتفي بقيمة المواطن أولاً باعتباره العنصر الأهم في تكون الوطن والأمة بأسرها.

نقلاً عن الاثير

حول الموقع

سام برس