سام برس
صدرت ضمن سلسلة " قصائد " عن دار " مومنت " :

تتحسس الشاعرة ذاكرة الأشياء تحاورها / تحاولها في نظر بعين القلب لا بعين الوجه ...

هذا شيء من عوالم مناخ شعري يحيلنا الى بذخ الصلة بين الكتابة و الذاكرة ..بين الشعر و ذاكرة الأشياء في لعبة تقول بالآني وفق ذاكرة أحواله و تلويناته حيث الخطاب الشعري أسئلة مفعمة بالشجن في أرض الذاكرة و مجالاتها الخصبة و الجرداء و خلاصة الأمر هي القصائد تنشد خلاص الكائن في أحواله و في حله و الترحال...

القصائد تستدعي الذاكرة في غير عناء و تكلف .. فقط هو صفاء المعاني و الكلمات يدعو أزمنة و أمكنة و حكايات في هدوء الشعر و ما يشبه النواح الخافت ...الذكرى حارقة و الذاكرة روح لا تضاهى يخلص الى كنهها الشعراء يجترحون القصائد في هيئات شتى من البهجة و الألم و السعادة و الأمل و الحيرة و الحلم ...هذا الحلم الآسر مدرك الذاكرة و المأخوذ بألوانها...

شمس الدين العوني

اللغة هذا الطائر بأجنحة المعاني يأخذ الكائن الى شواسعه في رحلة كشف حيث القول بالذات في بهائها النادر وجدا و حلما و تجليات شتى و بما لا يمكن معه السقوط ...اللغة هذه الزهرة الجميلة في الأقاصي تغري الفراشات و هي ترقب هبوبها بعينين من ألوان و رحيق..و وحده الشاعر هنا يدرك يرها ..بل الأسرار ليذهب بعيدا في النظر و الترجمان و الدهشة....هي اللغة بالنهاية قول الأؤض تجاه الفصول ..ما سيبقى للأمكنة...للمدينة.
الشعر و هنا في جهة من جهاته دهشة بفعل الادراك ..ادراك سحر الكلام و فعله الفاتن في الذوات و العناصر و الأشياء و التفاصيل..سحر يشغل الذاكرة يدعو حكاياتها الجميلة بكثير من الحنين و الأسى و البهجة على سبيل التذكر و الانتشاء في عوالم مأخوذة بالفجيعة و التداعيات المريبة...عوالم مفجوعة و موجوعة تحتاج موسيقى أخرى..موسيقى الشعر..شدو البلابل مثلا..و هذا يكفي لتهنأ اللغة في رحاب شاعرها الذي يقول حين ...لا يقول :
" هي صمتنا
لما سئلنا
عندبدء الخلق
عما نشتهي
........
هي ما تناثر من نجوم
كلما زاولت اسمك
أو اذا أسميتني
........
هي ما تقول الأرض
في بدء الفصول
هي ما نقول
و لا نقول
هي ما سيبقى
للمدينة
حين نمضي
من صداي
و من صداك ".

و من اللغة و بها يتحسس الشعر / الشاعر ذاكرة الأشياء يحاورها و يحاولها في فسحة من القول و النظر بعين القلب لا بعين الوجه ذهابا للأقاصي و الى حيث يبدأحديث الذاكرة...الذاكرة هنا ضرب من الوجدان و احساس الشاعر بالغربة..غربة الأمكنة و فداحة الحال...و فصاحة الروح...فسحة من الشعر يجترح بهجة من عنفوان الذاكرة تقصدا للغناء و التحليق مثل طيور حالمة في الزرقة البعيدة أدركت وجهاتها الأولى ..زمن الضياع و التيه المريب :
" ليديه
ذاكرة الطيور
و لي أنا
أن أجعل الدوري
يدرك عشه
و يحطمن فزع
على كفي
و ينفض ريشه المبتل
ينقر حبتين
فيهتدي
لحقوله الأولى
و يهجع
في يدي " .

هذا شيء من عوالم مناخ شعري يحيلنا الى بذخ الصلة بين الكتابة و الذاكرة ..بين الشعر و ذاكرة الأشياء في لعبة تقول بالآني وفق ذاكرة أحواله و تلويناته حيث الخطاب الشعري أسئلة مفعمة بالشجن في أرض الذاكرة و مجالاتها الخصبة و الجرداء و خلاصة الأمر هي القصائد تنشد خلاص الكائن في أحواله و في حله و الترحال...القصائد تستدعي الذاكرة في غير عناء و تكلف .. فقط هو صفاء المعاني و الكلمات يدعو أزمنة و أمكنة و حكايات في هدوء الشعر و ما يشبه النواح الخافت ...الذكرى حارقة و الذاكرة روح لا تضاهى يخلص الى كنهها الشعراء يجترحون القصائد في هيئات شتى من البهجة و الألم و السعادة و الأمل و الحيرة و الحلم ...هذا الحلم الآسر مدرك الذاكرة و المأخوذ بألوانها :
" ما كنت أنوي
أن أكون
على الطيور رقيبة
حتى يطيرها الفزع
أو كنت أنوي
أن أديرالريح
في غير اتجاه الفلك
أو
أذكيت في النسيان
ذاكرة الوجع
أبدا
و لم أطلب
من النخل المهاجر
أن يغادر رمله
و يطول في برد الشوارع و المدن
أو كان زرعك في حقولي
كي أصلي للمطر
أو كنت كثلي في الهوى
أدركت منزلة المواجد
كي أبادلك الصبابة
أو أقاسمك السهر
........ " .

هذا شيء من دفتر الأحلام و الرغبات و الشجن في فسحة الوجد و الذاكرة..ذاكرة العشق و الطير و الوجع..حيث القصائد تفصع عن آنها القديم الجديد..عن ظلالها الماكثة في الأمكنة من القيروان الى بلنسية الى...ذاكرة الشعر..هذا الآخذ بناصية الأشياء حيث المعاني تطلع لتذهب بعيدا في العلو...كالطير ...هي ذاكرة الطير ...ذاكرة الشاعرة بين لونين..الألم و الحلم..و الشاعرة هنا بالشعر وحده تهم باللونين ذاكرة و شعرا و كل ذلك في حالة من طفولة التعاطي تقصدا للجميل و الفاتن و ما هو كامن فينا من بهاء نادر رغم المواجع و الحسرة و الاسى ...هذا هو الشعر الخالص اذ يبوح بسره و يكشف غناءه الخافت في ضرب من الانتشاء بكل شيء...بالخسارات الجميلة...بالحلم القادم ..و باللاشيء..و ليكن..الشاعرة هنا تعيد العناصر لذاكرتها ...للينابيع..للجوهر و الكنه و ما به يكون الشعر شعرا :
" قل ما تريد
ولا تقل
كانت تغني لي
و تبدع في النشيد
...
قل ما تريد
و لا تقل
قد كنت ملهمتي
و سيدة القصيد
و لا تقل
خانت
و مالت
للهوى الآتي الجديد
و غدا سيكسر في الرياح
جناحها
و تعود مفردة
كما الطير الشريد
....
ستجيء
تطلب في القصائد ملجأ
و تنوح في بيت القصيد
........... " .
هكذا هي الشاعرة جميلة الماجري في ديوانها الممهور ب " ذاكرة الطير " الصادر ضمن سلسلة " قصائد " عن دار " مومنت " للنشر تأخذنا الى جنان الذاكرة و حرائقها و تمر بالأمكنة تنظر باتجاه المعاني و تحيي ما بها من فرح و وجيعة و ذكرى ..شعر رائق سلس به مسحة الأعماق و الشجن البليغ ..تمضي مع القصائد فتأخذك من يدك الى مواطن الجمال تدلك اليها لتكتشف شيئا من دواخلك عبر الأزمنة و الأمكنة ..تنبش في خرائط المسرات لتلق جواهر الأحوال..و كنوز الجهات...و منها الكنز القيرواني الضارب في القدم و الأسطورة الشعبية :
" من أي كنز تبدئين ؟!
الليل مشتمل على أسراره و كنوزه ...
متكتم...
و الكنز مرصود
لسيدة النساء
تكون مفردة
بمعنى الجمع
تختزل النساء بليلة
و تجيء قبل الفجر
تلقي كل فتنتها على الأعتاب...."

هذا الديوان الشعري تحتشد فيه عوالم الذاكرة حيث التذكر شأن شعري بين ذاكرتين ..ذاكرة فردية متصلة بشؤون الشاعرة و خصوصياتها و ذاكرة جمعية بين بيئة الشاعرة و تواريخ و حكايات و معالم كل ذلك في شيء من أصالة التعاطي الشعري ..وفق جدلية سؤال الذاكرة و الشعر و اجابات عنه قديمة جديدة ..ان الذاكرة فاعلة و مؤثرة في الانسان و في وعيه و لا شعوره ..الذاكرة فعل حسي و بالتالي شعري يدعو الماضي بكل تلويناته الى اللحظة الراهنة ..لحظة الكتابة...ان الذاكرة هنا في هذا المجال الشعري لقصائد الماجري مولدة فهي تبتكر عوالمها المتجددة بكم هائل من الخيال.. إنها الذاكرة الشاعرة تملي بوعي الشعر و خساراته الجميلة و شجنه و حرقته و أساه على الشاعرة قصائدها المعطرة و المثقلة بعطور الحنين و النظر و التأمل ...فعلا ..الكتابة الشعرية في حيز منها محض ذاكرة متيقظة تعيد صياغة عالم عابر لتعيده منتج حالات جديدة مؤثرة في أنساق الحاضر وفق عناوين منها التجدد و القيمة و الجمال و ما به تقوى القصيدة على مواجهة راهنها المتداعي .
هي الشاعرة تبتكر طيرها لتأخذنا الى دروب من رحلة الشعر ..هي رحلة الذاكرة الثاقبة في رمزية و شعرية بشكل عارم تجترح حكاياتها وفق هذا الآني الشائك الذي تتداخل أحواله مع القديم ..فسحة الشعر ضمن زمنين فيهما المجد و السقوط و السعادة و الخيبات و البهي و الموحش..و كان لا بد من طير في علوه يمنح الأشياء و الجهات شيئا من ذاكرتها أمجادها المنسية في زحمة هذه المتغيرات العاصفة بكل شيء و خاصة ما هو جميل و كامن في الدواخل..و اللاوعي ..هكذا كانت قصائد المجموعة ذاهبة في عمق حالاتنا العربية و وجدانياتها و ما حف بها من نسيان و زيف و انهيار.
"..........
سلام
على أمة
أسلمتنا لمفترق الطرق
ثم مضت
كأغنية في شفاه السراب
سلام
على زمن القول
يا أمة
ضيعت ماء وجه القصيد
وباعت بلاغتها
في مزاد اللغات "..

شعر ينهض من حكاياته الجمة يرسم بالكلمات مدارات عشق و هيام و انكسار و وجد حيث لا مجال لغير التذكر لتلمع المعاني كاشفة أزمنتها الباذخة .. و من ذلك براعة الشاعر في استعادة حكاية الصداق القيرواني حيث أحب أبي جعفر المنصور أروى القيروانية وكان ذلك السرد الشعري الذي أبدته الشاعرة في صور بليغة و معان بديعة محت المسافات لتجمع القيروان ببغداد و زرود بالفرات و شط الجريد و شط العرب...
" أجابته :
ما زلت لم تبلغ الباب بعد
فللقيروان
مداخل لم تختبرها
فقال : العراق !
أجابت : وذي قيرواني
" فقال :
" أعلق ما بين ماءين
أرجوحة للجميلة
و ماء زرود
و ماء الفرات
فقولي : نعم
كي أمد لهودجك الظل
ما بين شط الجريد
و شط العرب
................ "
شجن و عشق و ألق في التواريخ زمن الانكسارات و الفراغ و التداعي المريب ..أين العراق و العرب في هذا الكون الضاج العاصف و الصاخب و قد ظلت الحكايات بمثابة الأمجاد الضائعة ..و الخسارات الجميلة في وجدان الشاعرة و هي التي ديدنها في هذا الليل العربي ذاكرة طير .. هذه الذاكرة المتشظية في القصائد ...و من قصائد هذا الديوان نجد " اللغة " و " ميلاد القصيدة " و" ذاكرة العشق " و " الكنز القيرواني " و " حديث الشجرة " و " حرقة الأسئلة " و " موت المغني " و " الغريب و عشق القيروان " و " فتى ضيعته الفتوة " و " مرسى الهوى " و " سلام " ...قصائد تكشف حيزا من الاعتمال حيث الذات في حنينها القاتل و شجنها العالي بما يشبه النواح الخافت بين حالتين و زمنين و حكايتين ..قصائد فيها النظر بعين القلب لا بعين الوجه قولا بالشعر يعلي من شأن الأحوال زمن الأسى لتظل اللغة الشاعرة الملاذ و الذكرى...و الذاكرة .
" هي ما تقول الأرض
في بدء الفصول
هي ما نقول ولا نقول
هي ما سيبقى
للمدينةِ
حينَ نمضي
من صداي
ومن صداك ".
" ذاكرة الطير " شعر يذهب الى دواخلنا قولا بالقيمة زمن الذهول تجاه الانهيار المبين حيث الشعر هو العزاء و البهجة العارمة ...هم الشعراء يدعون الجميل في حضرة ما تداعى بلغة تقوى على ترميم ما تصدع في الذات..الذات الشاعرة التي لن تكف عن الحلم و التحليق عاليا و بعيدا كالطير ...الشعر هنا فعل حياة زمن الفجيعة ..قول ذاكرة حية ...زمن الزيف و المحو ..و النسيان.

حول الموقع

سام برس