بقلم/ عبدالله بشارة
بأحرف واضحة المعاني، وجه سمو الأمير خطاباً إلى الشعب الكويتي تولى قراءته بهدوء معبر سمو ولي العهد، يوضح فيه سمو الأمير قراءته لقرارات ومواقف اتخذها المجلس، ورأى سموه أن المصلحة الوطنية تدعو إلى إغلاق ملفاتها، والانطلاق في فضاء مستجد، لا مساس فيه بالدستور ولا اقتراب من لوائحه الداخلية مع حيادية حول مصير الانتخابات في الرئاسة وفي اللجان، وبذلك يقرر سمو الأمير حمل الكويت إلى زمن مخالف عما مضى فيه الأمل المتوقع بأن يطوق النواب القادمون حماسهم، واعين لواقع الكويت الجغرافي، ومعززين وحدتها الداخلية، ومتعاونين مع السلطة التنفيذية، وفق منظور مشترك حول انطلاق الكويت تجاه التطوير والتجديد والانفتاح المستنير.

لم يهتم المجلس السابق بحساسية الشعب الكويتي ضد العبثيات والاسترخاءات بمواد الدستور مما أنتج ضيقاً شعبياً من الأداء البرلماني ومن تضييع الوقت.

حمل ذلك الخطاب الكويت إلى أجواء ربيع مختلف عما سبقه، في محتوياته وفي نغمته، وفي بروز لإنكار الذات مع تنازل حكومي عن حق سجله الدستور، في الإجراءات وفي الجوهر، واقترب من اعتبار أي مس بالدستور من المحرمات، ومن ذلك الموقف ارتفعت أمواج التفاؤل وحملت معها مخضرمين ابتعدوا عن المشاركة وظلوا ناقدين ومعارضين، وأبرزهم السياسي المخضرم أحمد السعدون، الذي أخذته أمواج النسيم الجديدة إلى المشاركة في الانتخابات بكل جدية وحيوية.

والحقيقة أن محتوى ذلك الخطاب الأميري مع ما خلقه من التفاعل الإيجابي من شعب الكويت حمل المجتمع إلى مرحلة جديدة غابت عن المسرح الكويتي منذ وفاة الشيخ عبدالله السالم، خصوصاً في ما تميز به من إبراز الشهامة الوطنية السياسية بما فيها التنازل عن التفاصيل التي اعتبرها الدستور حقوقاً ثابتة للسلطة التنفيذية.

والواقع أن محتوى الخطاب الأميري الذي تلاه سمو ولي العهد جاء من فكر مستنير ومتفاعل مع التمنيات الوطنية التي دونها المرحوم الشيخ عبدالله السالم الذي كان مهموماً بثلاثة ملفات سعى إلى توفير حلول لها قبل أن تشغله أثقال الحياة.

أولها، الحفاظ على سيادة الكويت وصونها وحمايتها من الاختراق، فقد كان صاحب فطنة أمنية، واعياً لمتطلبات أمن الكويت، ومتابعاً لواقع المنطقة، وراصداً لشهية دول الإقليم في طموحاتها، ومصراً على توفير وسائل العلاج وإغلاق الأبواب التي قد تتسلل منها نزعة التمدد..

وثانيها، الشراكة في آليات الحكم، التي تتشكل من مسارين، الإرادة الوطنية عبر مجلس نيابي منتخب وفق قواعد الممارسة الديموقراطية..

وثالثها، الوحدة الوطنية التي في غيابها تنفتح منافذ التسلل للدخلاء، وتسبب الانقسامات وتفجر التباعد وتسمح للطائفية والمذهبية بالظهور والانتفاخ.

تجسدت هذه الخلطة الثلاثية في وثيقة الدستور التي اعتبرها الشيخ عبدالله السالم وثيقة عهد تاريخي بين الشعب والشرعية التاريخية.

وظل الأمير يتابع مسار المداولات في المجلس التأسيسي الذي تم اختياره لإعداد الدستور، تميزت المشاركات فيه بالحس الوطني المرتفع وبالحرص على الوصول إلى تفاهم كويتي جماعي، معبراً عن هوية المجتمع الكويتي بكل طوائفه وألوانه.

وقد ركز الشيخ عبدالله السالم في متابعته على الأسس الجوهرية في تأمين الحرية وحكم القانون وسيادته، واحترام الهوية والتعالي على الحساسيات وحماية السيادة وغرس الترابط وتعميق المشاركة بين الشرعية والمواطنين.

أنجزت الاجتماعات التي عقدها المجلس التأسيسي وثيقة العهد التي أرادها الشيخ عبدالله السالم وتسيد التفاهم أجواء المداولات التي تمت بكل حرية في عملية جماعية مشتركة للوصول إلى وثيقة العهد.

لم يأت ذلك النجاح سهلاً، فقد أظهرت الوثائق البريطانية قلق الشيخ عبدالله من الموقف البريطاني عندما كانت الجهود تبذل لقيام الاتحاد الهاشمي بين الأردن والعراق، ومساعي نوري السعيد، رئيس وزراء العراق آنذاك، بضم الكويت كدولة مستقلة إلى الاتحاد لكي تساهم في تغطية مصاريف الاتحاد، وتقبل بريطانيا ذلك الموقف، وتأثر الشيخ عبدالله السالم من ذلك الموقف الذي تخلت فيه بريطانيا عن حماية الكويت.

وما زاد الأمر سوءاً حدوث الانقلاب العسكري ضد الشرعية الهاشمية وسقوط الملكية في بغداد وتولي الضباط مسؤوليات الحكم مع انفتاح الشهية نحو الكويت، الأمر الذي أدى إلى الاسراع في إعلان الاستقلال في 19 يونيو 1961، بعد اجتماعات ماراثونية عقدها الشيخ عبدالله مع المقيم السياسي البريطاني في الكويت كانت تتم في قصر دسمان في السابعة والنصف صباحاً، لم يكن الشيخ عبدالله السالم مطمئناً لنوايا الجوار، ولذلك أصر على عقد اتفاق أمني مع بريطانيا يتضمن دوراً بريطانياً بارزاً لحماية الكويت، وصدقت مخاوف الشيخ عبدالله السالم عندما أعلن قاسم، رئيس وزراء العراق، ادعاءاته في ضم الكويت، ومنها تعقدت الأوضاع إلى أن تم قبول الكويت في الأمم المتحدة عام 1963 بعد انضمامها للجامعة العربية.

كنت مديراً لمكتب المرحوم الشيخ صباح الأحمد، وزير الخارجية في بداية الستينيات، وكان المرحوم الشيخ صباح يحرص على أن يقرأ الشيخ عبدالله بعض الوثائق ذات الحساسية الخاصة، ويأمرني بأخذها إلى الأمير للاطلاع، وأذكر في عام 1964، وبعد أن قرأ ما حملته من وثائق، قال لي: «نحن في الكويت نرتبط مع المملكة العربية السعودية بحبال متينة لها خصوصية ونلتزم بها»، وأضاف أن: «مجاملة الحكام من الضباط العسكريين لن تفيد الكويت».

كانت الصيحات العروبية تهب على منطقة الخليج من الشمال وبشيء من التعالي والاستخفاف.

أردت إلإشارة إلى تلك الأحداث لإبراز الحس الأمني العالي لدى الشيخ عبدالله السالم ورؤيته للدستور كوعاء يصون الكويت في السيادة وفي الوحدة الوطنية وفي الشراكة في آليات الحكم.

لم يلتزم أغلبية النواب بهذه الروح، لأن التباين في تفسير معاني الدستور أدت إلى اجتهادات أضعفت الديناميكية الموحدة وأبرزت مصالح الطوائف والتجمعات السياسية، وتجاهلت الشحنة الوطنية الجامعة وأخرجتها من مداولات المجلس.

نعود إلى انتخابات نهاية الأسبوع، بالتذكير بأن خطاب سمو الأمير أعاد تلك الشحنات الوطنية الجامعة إلى موقع الأولويات في مسار المجلس، فالدستور وثيقة عهد جامعة أولوياتها الوحدة الوطنية، وصون السيادة، واحترام الشراكة في إدارة الوطن، هذه جواهر الدستور، ومسؤولية النواب الالتزام بها، وليس السباق نحو طرح الثقة بالوزير أو مضايقة رئيس المجلس أو إعلان عدم التعاون مع رئيس الوزراء وتوجيه الاتهامات إليه.

هذه جوانب بعيدة عن أهداف الدستور. ومن باب التذكير، فإن خطاب سمو الأمير يعيد المجلس وجدول أعماله إلى القضايا الجوهرية التي جاء الدستور للتعامل معها وفق المصالح العليا للدولة، من دون الاستعراض في استجوابات حول قضايا يمكن حلها من دون توترات وانشقاقات.

وآخر ملاحظة على خطاب سمو الأمير، تأكيد أنه يحمل دعوة من سموه إلى النواب القادمين بأن يكون اهتمامهم بالقضايا الكبيرة، مع حسن التدبير في الموضوعات الاقتصادية والتنموية والالتزام بالموضوعية، وأن يبذل الجميع الجهد المخلص لكي تتفوق الكويت على معضلات التعطيل.

نقلا عن "القبس"

حول الموقع

سام برس