بقلم/ عبدالباري طاهر
بتواضع جم، وبتركيز وتكثيف شديدين يجسدان المقولة الصوفية: (كلما اتسعت الرؤية، ضاقت العبارة).

المذكرات ذات القطع الصغير في 147 صفحة هي عنوان للسيرة العطرة والزاكية للأستاذ الجليل الأديب الكبير متعدد المواهب محمود الحاج. وهو شاعر حداثي وغنائي، وصحفي قدير، ونجم تلفزيوني، ومثقف عضوي، واسع المعرفة.

حقيبة الأديب المثقف مجرد عنوان يشتمل على عناوين مصاغة بخبرة ومهارة ودقة. عرفت الزميل العزيز محمود منذ مطلع السبعينات، فهو على جانب عظيم من الأدب والخلق والتواضع، قليل الكلام عن نفسه حد البخل.

بداية التعارف في 1972 عندما وصل وفد اللجنة التحضيرية لاتحاد الأدباء والكتاب إلى الحديدة: محمد سعيد جرادة، وفضل النقيب، ومحمود الحاج، وكنت والزميل الشاعر الراحل أبو القصب الشلال معهم.

حقيبة الأديب الكبير، والمثقف الأنيق كتابةً ومسلكًا، مليئة بالكنوز والمعارف والأسرار. تزاملنا بعد ذلك في اتحاد الأدباء والكتاب، ونقابة الصحفيين، وصحيفة الثورة، واليمن الجديد.

يبدأ محمود تدوين مذكراته من بداية التلفزيون في الـ ج. ع. ي، ودور كوادر عدن، ودور الزعيم سالم ربيع علي، وعمر عبد الله الجاوي في تشغيل تلفزيون صنعاء بارز، وكانت إحدى بدايات الحاج أيضًا، وسطوع نجم الشهيد الحمدي.

يأخذ شاعر اليمن والعرب الكبير البردوني مساحة واسعة، وحيزًا كبيرًا في الحقيبة. يدون صاحب الحقيبة بداية اللقاء بالقاضي الإرياني والنعمان، وسؤال النعمان الذي لا جواب له.

يقرأ البردوني بعد رحيله بعشرين عامًا، وقراءته تكشف مدى معرفة محمود بالشعر، وامتلاك الذائقة النقدية، وعمق قراءة إبداع البردوني، كما يقرأ أيضًا قصة الشاعر لطفي جعفر أمان، وقصيدة:

أخي كبلوني.. وغُلَّ لساني واتهموني- الأغنية الرائعة التي غناها محمد مرشد ناجي. ويذكر قصة اختطاف الإنجليز للطفي إلى معتقل زنجبار قبل أسبوع من الاستقلال، ويدون اللقاء بالعمالقة الثلاثة : لطفي، وجرادة، وأحمد قاسم، وخلاف لطفي حول قسوة نقد الأستاذ الكبير عبد الله عبد الرزاق باذيب.

والواقع أن الأستاذ عبد الله باذيب، وتحديدًا في مجلة الرسالة كان يخوض معركة أوسع وأشمل في مواجهة الجمود الفكري والأدبي والسياسي، والمعركة مع البيحاني، ومع عبد الله عبد المجيد الأصنج، ومع الأحرار، والاتحاد اليمني، وبالأساس مع النهج الاستعماري، والمتوكلية اليمنية. كان الإعلان عن النهج الماركسي الذي يؤسس للاتجاه الجديد. والحقيقة أن نجومية محمود الحاج وروافدها كاثرة؛ فهو الخارج من رحم القديم؛ فأستاذه وأبوه الروحي عبد الرحيم الأهدل، ومدرسة عبد الله فاضل فارع، وهو من أكثر المثقفين اطلاعًا، والأكاديميين علمًا، والشاعر والأديب الكبير محمد سعيد جرادة، وكان انفتاحه على الحداثة وثقافة العصر واسعًا ومؤصلاً.

في حقيبة النجم التلفزيوني المحاور تدوين لرحلاته إلى هافانا، وعاصمة النور فرنسا، ورحلته إلى الكويت، ومعاناته من الأمن الوطني الذي يترصده في المطار، وعمله المؤقت في الرأي العام، ثم العودة إلى صنعاء، والعمل في التلفزيون، والسفر إلى مصر لإعداد حلقات برنامج إطلالة على الأدب، وسهرة مع فنان، ولقائه بنجيب محفوظ أبو الرواية العربية والحائز على جائزة نوبل، والذي يكره الظهور في التلفزيون، ودار حوار معه، ومع الفنان عبد الوهاب، ولم تتم المقابلة.

يدون بداياته الشعرية الغنائية تحت تأثير القمندان، والدان اللحجي. للنجم الأدبي لقاءات مائزة، ومقابلات عديدة بكثير من الأدباء والمثقفين والفنانين، ومن أهمها مرافقته للفنان أبو بكر سالم بلفقيه، والتي امتدت إلى صنعاء، والحديدة، وتعز، ويتناول نجمان لمعا في سماء الفن والرياضة، وهما الفنان أحمد قاسم، واللاعب الرياضي البارز علي محسن مريسي، ويستعرض الناقد الفرص التي أتيحت لهما في مصر، والمكانة التي تبوأاها، والإنجازات التي حققاها، والنهاية المأساوية لنجم الزمالك الرياضي علي محسن الذي وجد ميتًا في سكنه في اليوم الثاني.

وتحت ثلاثة عناوين يتناول قصة عملنا معًا، هو كمدير تحرير، وأنا معه كعضو سابق في هيئة التحرير، وما تعرض له من نجاح، ومضايقات من جهاز الأمن الوطني، واعتقالنا معًا، وإبعادنا من الصحيفة بمكيدة وتدبير "التاء المربوطة". وكنت أتمنى لو أشار الأستاذ محمود إلى ما نشرته صحيفة الخليج الإماراتية أن إبعادنا من الصحيفة مؤشر تغيير في السياسة الإعلامية، وتوجهات جديدة، ولم تمض إلا بضعة أشهر حتى استشهد المقدم إبراهيم الحمدي، وكان اعتقالنا من قبل قائد حرس الحمدي الذي قتل معه أو أخفي، وهو المقدم عبد الله الشمسي.

يعود الأستاذ للإشادة بمناقب أستاذ الأجيال عبد الله فارع، ودعوة الشيخ البيحاني على عبد الفتاح إسماعيل، وسالم ربيع علي. كثيرًا ما يؤكد محمود- ومعه كل الحق- على دور منتدى فاضل، وجرادة، والأهدل، والجابري في تفتق وعيه، وتعلمه كثيرًا كشاب متفتح متعطش للإبداع والمعرفة.

يذكر بإعجاب واندهاش زيارة الشيخ محمد سالم البيحاني للأستاذ فاضل، ومجموعة المنتدى، وشكواه الباكية من قرار فتاح أولاً، ومعه سالمين لتأميم المدارس الأهلية؛ مذكرًا لهم بأن معهده- "معهد النور" أسسه بجمع التبرعات من الداخل والخارج، وكان يدرس الطلاب مجانًا. يضيف محمود محقًا أن الشيح كان في حمى الحرب الأهلية بين القومية والتحرير، وكان يدعو لوقف الحرب، وعدم سفك الدماء، ثم دعا على فتاح وسالمين: (فتاح لا فتح الله عليه، وسالمين لا سلمه الله).

يتحسر أنه التقى أبو الرواية اليمنية محمد عبد الولي طالبًا إجراء حوار معه، فوعده بعد العودة من رحلة الدبلوماسيين التي لم يعد منها أحد. يأتي على رحلة مع علي ناصر محمد الرئيس السابق بعد كارثة رحلة الدبلوماسيين التي أودت بحياة العشرات منهم. كان في الرحلة بالطائرة الروسية العسكرية سلطان ناجي، والمرشدي، وكانا خائفين من سقوط الطائرة.

ويتحدث بود وصدق عن مقبل- الاشتراكي الأطيب، والأنظف؛ فبرغم محاولة البعض تحميله خطأ حصل في أخبار الرابع عشر من أكتوبر والصحيفة الرسمية، إلا أن مقبل- عضو المكتب السياسي القوي حينها طمنه، وأعاده إلى عمله.
يجري مقابلة صحفية مع الأمين العام للحزب عبد الفتاح إسماعيل، واصفًا فتاح بالرومانسية السياسية، ويلاحظ التحشيد المناطقي في الخلاف بين فتاح، وسالمين.

تجربته في الـ 14 أكتوبر، والاختفاء القسري لزميله الصحفي، خريج صحافة من القاهرة: أحمد العبد سعد، ومشاهدته اعتداء عضو اللجنة المركزية عوض الحامد على الصحفي أحمد عبد الحميد، خريج كلية الإعلام، جامعة بنغازي- باللطم، والأهم قراءته الواقعية لطبيعة الصراع مع زميله الصحفي القدير فضل النقيب، وقرارهما عدم العودة إلى عدن، وكان للجاوي دور في مساعدتهما على الخروج. ويذكر ما قاله جرادة عندما عاد وحده إلى عدن، وسئل عن رفيقيه، فقال: الرجعي رجع، والتقدميون تقدموا.

ويتناول ذكرى الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة، وتحاوره معه شعرًا، ومقابلاته في دمشق مع المفكر والأديب المسرحي سعد الله ونوس، ولقائه مع الممثلة منى واصف التي اشترطت إعداد الأسئلة من قبلها، وياسر العظمة الذي "تأبى استراتيجيته" إجراء المقابلات، ومقابلته مع الروائي الكبير والمثقف المعارض عبد الرحمن منيف، ولم تر النور، وزيارته للهند في عدة حلقات، ويقدم وصفًا دقيقًا وضافيًا وممتعًا لزيارته لموسكو.

المذكرات الرائعة تتخذ أسلوب السرد الروائي، وفيها من المهارة والإبداع والظرف؛ ما يدفعك لقراءتها في وجبة واحدة.
سيرة المبدع الكبير أوسع وأشمل مما دونه، ولعل العنوان "من حقيبة الذكريات"؛ ما يعني أن من التبعيضية تعني أن الحقيقة ما تزال تحتفظ بالكثير، وما دونه السارد في النص الإبداعي الرائع ليس إلا بعضًا مما تحتويه الحقيقة.

نتمنى لأديبنا المتعدد المواهب والقدرات أن يتعافى، ويتحفنا بقراءة المزيد من كنوز وروائع ذكرياته العطرة.

من صفحة الاديب والشاعر والصحفي محمود الحاج

حول الموقع

سام برس