خالد الشامي
ثمة حاجة ملحة تفرض نفسها على المراقب للشأن المصري حاليا، للتريث قلــــيلا، والتشبث بمعطـــيات الواقع حتى لا تجرفه من عل ‘سيول التصريحات والوعود البراقة’ المنهمرة من حملتي المرشحين للرئاسة عبد الفتاح السيسي وحمدين صباحي، ما كاد يحول الحمـــلة الانتخابية الرئاسية الى ‘مسابقة في ادب الاحلام او الخيال العلمي’ تهدف غالبا الى دغدغة مشاعر الشارع او ابتزازها.
فمن ‘الفدان والعشرة الاف جنيه’ التي وعد صباحي بتوزيعها على كل شاب، لمواجهة البطالة التي باتت تمثل تهديدا حقيقيا في مصر، الى النقص في الوقود وما نتج عنه من ازمة بالكهرباء التي وعد السيسي بتحويلها الى ‘فائض يقدر باربعة الاف ميغاوات يمكن استخدامه في انشاء مصانع عن طريق استخدام المصابيح الموفرة للطاقة’، كان ينبغي توجيه العديد من الاسئلة التي تبدو بديهية، لولا ان وسائل الاعلام معنية بالترويج و’التلميع′ لهذا المرشح او ذاك، اكثر من الوصول الى الحقيقة التي هي وظيفتها الاصلية.
ومن بين هذه الاسئلة:
- من اين سيأتي صباحي بالموارد المالية اللازمة للوفاء بهذا الوعد، (بالاضافة الى وعود اخرى بينها الغاء الديون المتراكمة على الفلاحين) في بلد تراكمت ديونه الداخلية حتى اصبحت تقترب بسرعة من رقم الترليوني جنيه مصري؟ وتضطر الحكومة الى انفاق ربع الدخل القومي لخدمة هذه الديون، اي دفع فوائدها من غير ان يؤدي ذلك الى التقليل من قيمتها الاصلية، بالاضافة الى عجز مستمر في الموازنة العامة للدولة بلغ 300 مليار جنيه ويمثل 14′ من الناتج المحلي.
- هل يمكن للسيسي باستخدام سياسة (الامر المباشر) او حتى تطبيق ‘الاجراءات’ التي لمح اليها، ان يقضي على ثقافة الاهدار والفساد التي هي احد الاسباب الرئيسية في ازمة الطاقة (وازمات اخرى) خلال شهور؟ أم ان الامر يحتاج الى اصلاحات تربوية وتعليمية وبرامج للتوعية قد لا تؤتي اكلها قبل سنوات؟ وكيف سنواجه الطلب المتزايد على الطاقة خلال تلك السنوات؟ وماذا يضمن ان تواصل دول خليجية تقديم المساعدات من النفط والغاز التي بلغت قيمتها ستة مليارات منذ تموز/ يوليو الماضي. ومن اين سيأتي بنحو مئة وخمسين مليار دولار لتوزيعها على المحافظات بعد اعادة تقسيمها اداريا، بحيث يكون لكل منها ظهير صحراوي ومنفذ على البحر، لاقامة مشاريع استثمارية وخدمية كبيرة؟
- وعلى الصعيد السياسي، هل يمكن حقا لصباحي ان يجبر اسرائيل على تعديل اتفاق السلام مع اسرائيل؟ وهل سيسمح له مجلس الامن القومي الذي تسيطر عليه المؤسسة العسكرية بذلك اصلا؟ وهي تعرف جيدا ان اسرائيل رفضت بالفعل اي تعديلات، خاصة ان الدستور الجديد لا يسمح لرئيس الجمهورية باعلان الحرب (التي ستكون حتمية) بدون التشاور مع ذلك المجلس. وهل تتحمل مصر بوضعها بالغ التعقيد حاليا محاولات عاطفية او ساذجة لاستنساخ سياسات ناصرية ربما كانت ناجحة في اواسط القرن الماضي، لكن في اطار معطيات محلية واقليمية ودولية مختلفة تماما عما هي عليه الان؟
ولاشك ان صباحي كسياسي محترف وخطيب مفوه قادر، بعكس خصمه، على الاسترسال في بناء تلك ‘اليوتوبيا الخيالية’ التي تنتصر للضعفاء والاكثر فقرا، الا انه يتجاهل، كما فعل في مقابلته مع قناة النهار قبل يومين، اي اسئلة بشأن الوسيلة العملية لتحديد اولئك في النظام البيروقراطي، ثم مساعدتهم فعلا.
- اما بالنسبة للمشير السيسي فالامر مختلف تماما، اذ اننا نتحدث عما يفترض ان يكون ‘برنامجا سياسيا للحكم’ قد يدخل حيز التنفيذ خلال اسابيع قليلة، ومن هنا كان يجب ان يقدم للمواطنين بشكل واضح ومتكامل، وليس من خلال حوار تلفزيوني يشتت الافكار ويخضع لتسجيل النقاط والفواصل الاعلانية.
والنتيجة ان كثيرا من المصريين يجدون اليوم انفسهم امام امر واقع، اذ يكتشفون رئيسهم المقبل في ‘الوقت الضايع′ بلغة كرة القدم، اي بعد اغلاق باب الترشيح، مع انحصار الخيارات بين مــــرشحين، يجمع بينهما الافتقار الى برامج حقيقية مدروسة وقابلة للتحقيق على ارض الواقع.
- والى جانب الوعود البراقة والاحلام، تأتي المفاجآت غير السارة، ان لم تكن الصادمة من جانب السيسي، واخرها ان ‘تحقيق الديمقراطية يتطلب خمسة وعشرين عاما بعد تحقيق الاستقرار’، ولا نعرف لماذا ربع قرن، وليس اكثر او اقل من هذا، وما هو تعريفه لتحقق الاستقرار الذي يبدأ من عنده العد التنازلي للديمقراطية؟ وهل لهذه التصريحات علاقة بتصريحات قديمة للمشير قال فيها، انه ‘اذا نزل الجيش للشارع لن يترك الحكم قبل ثلاثين عاما’؟
اما المفاجأة التي لم ينتبه اليها كثيرون في حوار المشير، فهي انه رفض تأكيد ان البرلمان يملك الحق في مراقبة المؤسسة العسكرية، واكتفى بالتشديد على عظمة المؤسسة العسكرية وتمنيه ان تكون مصر كلها مثلها. كما رفض توضيح آلية اختيار رئيس الاركان الجديد الذي يرتبط بصلة مصاهرة مع المشير، مستنكرا محاولة الاعلام التدخل في امور الجيش، وان كان نفى بشدة ان يكون تعيين نجليه في المخابرات العامة والرقابة الادارية جاء (بالواسطة)، واستدل على ذلك بأن نجله الثالث رفضت وزارة الخارجية تعيينه، بينما كان هو على رأس الجيش.
فهل يحتمل الواقع المصري المزيد من التجارب او الاحلام او المفاجآت؟ ام انه وصل الى درجة من الاحباط تجعله يفضل التعايش مع الدولة بمساوئها واوهامها على ان يعيش بلا دولة؟

كاتب مصري من أسرة ‘القدس العربي’

حول الموقع

سام برس