جميل مفرح
أنامله المعطاءة لا يكاد يفارقها التشقق، رائحة الطباشير لا تكاد تغادر جسده ولا ثنايا بدلته الصيفية المهترئة التي عايشت عمره الوظيفي.. دفتر التحضير لا يفارق أبطه وكأنه إنما يدون فيه سيرة حياة، نظارته التي حفرت على أنفه وصدغيه وأذنيه مساراً يشبه الطريق الترابي مازالت لم تسقط، ولو لم تعد تجد ما يمسكها، غير أنها اعتادت على أن تكون متأهبة في مكانها، لأداء ما يناط بها من جدية ودؤوبية ووفاء للمهنة وللأجيال التي تتابع مروراً من فوق هذا الجسر الناطح للسحاب همة وعطاء ومثابرة لا تنقطع.
> إنه يوم التكريم .. يوم رد الجميل أو جزء من الجميل.. يوم الاعتراف بفضل ولو يسير مما منحه هذا المعلم الجهبذ لوطنه ولنفسه وللأجيال العديدة التي يفخر بها وبأبنائها كلما طرأ طارئ أو ذكر.. ها هو يشهد غاية حلمه وهامة أمنياته البسيطة في أن يجد فقط من يقول له شكراً على كل ما أعطيت وبذلت شكراً على ما منحته هدية للوطن من عمر ثمين أفنيته كدا وعطاء ومثابرة بأمانة لا يقدر عليها إلا الضالعون في الوفاء والراسخون في التضحية والولاء.. والممعنون في العصامية وإنكار الذات.
> كثيراً ما افتخر أمام زوجته، جيرانه، أخوته وبني عمومته رفقاء دربه ذهاباً وإياباً بين منزله والمسجد، بكونه المربي الفاضل والوطني القنوع، والإنسان المتهالك المدمر كنتيجة لكل ذلك، وكثيراً ما تباهى كون الوزير الفلاني كان أحد تلامذته والوكيل العلاني كان يأخذ حصصاً إضافية لديه في المنزل، والقائد العسكري المذكور، كان الطالب الذي يحمل له حقيبته ودفتر تحضيره وعلبة الطباشير أثناء ذهابه وإيابه إلى المدرسة.. كثيراً ما كان يشعر بالاعتزاز حين يذكر مدراء مدارس ومسئولي تربية مروا من شقوق أصابعه وتزلجوا على زجاجتي نظارته لسنوات طويلة حين كان أستاذاً لهم.
> واليوم شعوره أقصى من أن تدرك السعادة والفخر والاعتزاز وهو يجلس في الصف الثاني من احتفال بهيج بالمعلم وأدواره وعطاءاته.. ها هو يجلس أخيراً بعد أن تم إقصاؤه أكثر من مرة من قوائم المكرمين لأسباب يجهلها.. ولكن حسبه أنه وصل وها هو يجلس في صف الكرمين يلتحف شعاراً قماشياً يمجد بيومه السنوي ويحمل الشكر الأسمي والرسمي لمنظمي الاحتفال، وبعد قليل سينادى باسمه ويصعد إلى المنصة ليحصل على قطعة كرتونية تعكس الفضل لمن كرمه أكثر مما تشهد له بشيء.
> أخيراً ها هو يلتفت يمنة ويسرة ليجد صفاً لا نهاية له ممن لم يكونوا ولن يكونوا في مقامه أبداً في العطاء والمواظبة والوفاء.. ها هم زملاؤه ممن كان يعتقد أنهم تركوا المهنة ولم يعودوا يزاولوها إلا في كشوفات الراتب، ها هم عدد ممن لم تمر على خدمتهم سوى سنتين أو ثلاث، ها هم من كانوا يتخذون من المدرسة استراحة لشرب الشاي والتلويح بالعصا الغليظة فقط.
> ها هم من كانوا يتخذون منه مسخرة ومن تجربته مثالاً للفشل والتخلف نظراً لما تتسم به من جدية وحزم زائد لا حاجة له.. ها هم المتقاعسون والفاشلون والمتخاذلون والماكرون، ها هم الجميع إلى جواره في مقامه مقام التكريم.. ينتظرون المناداة بأسمائهم لينالوا ما سيناله.. قطعة الكارتون التي تشهد أنهم أدرجوا يوماً في كشوفات موظفي التربية والتعليم!!
وها هو ينتبه فجأة وينظر إلى ساعته متأكداً أن اليوم مضى وانقضى وأنه سيعود وقد تم التأشير عليه في حافظة الدوام كغائب وسيخصم من مرتبه قسط يوم.. أهذا هو تكريم المعلم؟! يا له من لعنة!!

حول الموقع

سام برس