عبدالحليم قنديل
دولة الخلافة ليست فريضة إسلامية، ولا يوجد نص ديني حاكم يدعو إليها، لا في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية المؤكدة.
وما قيل عن «دولة الخلافة» لم يكن شيئا واحدا، بل تعددت وتعاقبت صورها في الزمان، وتجاورت أحيانا في المكان نفسه، ودون ان يعني التعاقب أو التجاور شيئا دينيا، أو ذا صلة بالشريعة أو بصحيح الإسلام، اللهم إلا في دولة النبي (ص)، وفي دولة الخلفاء الراشدين الأربعة، الذين قتل منهم ثلاثة غيلة وغدرا، واختلفت طرق تنصيبهم، ومسميات مناصبهم، وحدثت الفتنة الكبرى بعد مقتل سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم وقوع الحرب الدموية، ومقتل صحابة للنبي في معارك «الجمل» و»صفين»، ومقتل سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتحول دولة الخلافة إلى مجرد ملك كسروي عضود، لم يعد فيه من الإسلام غير شعارات على بيارق، بينما عم الفسق والفجور في قصور من أسموا انفسهم بالخلفاء، إلا من عصم ربك، وكان اتساع الأرض، وزيادة الموارد، وثراء حركة المجتمع، وتعدد المذاهب والفرق والمدارس الكلامية، وتضاعف معدلات حركة الترجمة والتأليف، كان ذلك كله هو ما خلق عصور ازدهار لحضارة المجتمع الإسلامى، ودون ان يعني ذلك صلاحا دينيا للحاكمين أو الخلفاء، ثم جاء حكم الزمن على القوة العظمى الإسلامية بالتآكل والذبول، حين جرى إغلاق أبواب الاجتهاد وتحريم العلوم، وتحولت القصة كلها إلى حكم من غلب بالسيف لا بالعقل، وكانت نهاية ازدهار المسلمين بتولي قوم من غير العرب، وشهدت الخلافة العثمانية ـ في قرنيها الأخيرين ـ تدهورا وانحطاطا عظيما، فقد تداعت فضيلة الأخذ بأسباب القوة والعلم والترقي والتمدن، وتحول الخلفاء العثمانيون إلى دمى تلعب بها حريم السلطان، ونكصت الدولة العثمانية، وعجزت بصورة فاضحة عن مواجهة الغزو الأوروبي الاستعماري لديار المسلمين، ولم يكن بها شيء يشرف مسلما، ولا يشرف عربيا بالذات، وهو ما عبر عنه المفكر الإسلامي الإصلاحي جمال الدين الأفغاني بقوله «لقد أهمل الأتراك شأنا عظيما. وهو اتخاذ اللسان العربي لسانا للدولة. وبدلا من تعريب الترك حاولوا تتريك العرب. وما أسفهها من سياسة. وما أسقمه من رأي «
خلاصة القول ان ما جرى الإصطلاح عليه باسم «دولة الخلافة « لم تكن دينا ولا عقيدة، بل كانت شانأ دنيويا محضا، جرت فيه أسباب الصعود، ثم جرت عليه أسباب السقوط، ودون ان يؤثر السقوط على عظمة الإسلام كدين عالمى، فلم يكن سقوط الدولة العثمانية نهاية للإسلام، فالإسلام عقيدة مجتمع لا شأن دولة، الإسلام عقيدة وشريعة، الإسلام دين ودنيا، وليس دولة بالضرورة، ولا سعيا إلى خلافة مما يزعمون لها قداسة دينية، فليس في الإسلام سلطة دينية، ولا دور حاكم لطبقة رجال الدين، وكل زعم بذلك، أو بشيء منه، يخرج عن ملة وصحيح الإسلام، ويدخل في دائرة تأليه البشر، والعياذ بالله، ويوقع في محظور الشرك بالله الواحد الأحد، فدين الإسلام هو عقيدة التوحيد بلا شبهة، ونبي الإسلام هو خاتم المرسلين، والقرآن الكريم بخاطبه بالقول « قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي»، والنبي (ص) يقول « ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فانتم أعلم به «، وقد أقام النبي (ص) دولته التأسيسية للمعنى الديني، وحكمها بدستور عرف باسم « الصحيفة «، وكانت إقامة دولته مقترنة بالوحي، وبنزول القرآن، والتدرج من الآيات المكية إلى الآيات المدنية، التدرج من آيات التعبد والتفكر إلى آيات المعاملات، وهو ما يعني ان دولة المدينة ليست مثالا قابلا للتكرار، فهي دولة نبي يوحى إليه، وكانت الممارسات فيها هي جملة ما نعرفه بالسنة القولية والفعلية، وكل ذلك مما لا يقبل التكرار، وان كان يلزم بالأقوال الداخلة في دائرة الإيمان، والتي لا يقوم بينها وبين القرآن الكريم تناقض، بل تطابق وتكامل، أما تأويلات الفقهاء فتختلف، فهي اجتهادات لبشر يؤخذ عنهم ويرد عليهم، وليس فيهم من يوحى إليه كما كان النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو ما يجعل من تاريخ المسلمين شيئا مختلفا عن عقيدة الإسلام التي اكتملت بخطبة الوداع. ففي تاريخ المسلمين ـ كما غيرهم ـ أشياء صالحة وأخرى طالحة، كان الخلفاء الراشدون الأربعة من عناوين الصلاح، ويندر ان تجد في من أتى بعدهم رمزا لصلاح ديني أو دنيوي، بينما كثرت عناوين الظلم والفسق والفجور والقتل بقطع الرقاب. وكانت القصة كلها دنيوية خالصة، أخذت من معايير زمانها في القرون الوسطى، وادعت انها تبني دولة خلافة على أساس ديني، وكان الأمر كذلك تماما خارج ديار المسلمين، فالامبراطورية الرومانية التي اعتنقت المسيحية بعد ان حاربتها، هذه الدولة الرومانية اعتبرت نفسها أيضا خلافة دينية، وانقسمت الامبراطورية الرومانية إلى شرقية وغربية، وعلى أسس صراع دنيوي التمس لنفسه أسبابا مذهبية ولاهوتية، ودعما من رجال دين ما بين كاثوليكية روما وأرثوذكسية القسطنطينية. وكما تفرقت دولة المسيحيين، تفرقت الدولة التي زعمت انها للمسلمين. ومع تطورات على خرائط الدنيا، أحلت مفهوم الدولة القومية مكان مفهوم الدولة الدينية، وتغير مفهوم الأمة التي يصح ان تقام لها دولة، ولم يكن المفكرون المسلمون في منأى عن فهم التطورات واستيعابها، خاصة ان القرآن حسم الأمر لغويا وفقهيا، فقد ذكر القرآن الكريم كلمة «أمة» في أربع وستين آية، وبمعنى كل جماعة اجتمعت على أمر واحد يميزها عن غيرها، وسواء كانت أمما للبشر أو للطيور أو للحيوانات. يقول رب العزة سبحانه وتعالى «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة»، ويقول سبحانه «وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضى بينهم فيما فيه يختلفون»، ولم يحصر القرآن كلمة أمة في معنى الجماعة المتميزة بوحدة عقيدتها الدينية، بل اتسعت المعاني القرآنية لأمم التميز باللسان أو بالمكان أو بالزمان، وهذا الشمول الثري في الفهم والتأويل فتح الباب واسعا، وجعل مفكري تيار الجامعة الإسلامية يعيدون النظر فيما وجدوا عليه آباءهم، وينعون على الخلافة العثمانية تخلفها وانحطاطها، وتدهور علومها وصناعاتها وانغلاق أفهامها الدينية. وقاد تيار الجامعة الإسلامية مفكر من أصل غير عربي هو جمال الدين الأفغاني، بينما كان جل رموزها من العرب، وامتد أثرها الفكري بين منتصف القرن التاسع عشر الميلادي وأواسط القرن العشرين، ومن رجالها البارزين عبد الرحمن الكواكبي السورى ومحمد عبده المصري وعبد الحميد بن باديس الجزائري، وقد فرق وميز هؤلاء بوضوح بين معنيين لمفهوم الأمة، المعنى الديني الذى يسع العالم الإسلامي بأممه القومية المتنوعة، والمعنى القومي الذى يميز الأمة العربية بخصوصيتها. يقول بن باديس «إذا قلنا العرب فإننا نعني هذه الأمة الممتدة من المحيط الهندي شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا. وهذه الأمة تربط بينها ـ زيادة على رابطة اللغة ـ رابطة التاريخ ورابطة الألم ورابطة الأمل (….) وبين الشعوب العربية المستقلة تمكن بل تجب الوحدة السياسية التامة».
هذا الفهم الصافي لتيار الجامعة الإسلامية يميز بين دائرتين، ويطرح دولة الوحدة العربية على أساس قومي، ويوجب تضامن أمم العالم الإسلامي التي تجمعها وحدة وأمة العقيدة وقد كان ذلك أساسا تاريخيا وفكريا لتيار القومية العربية في مصر، وبالذات مع صعود المرحلة الناصرية، والتي طرحت هدف التوحيد العربى، وإقامة برلمان شعبي جامع للعالم الإسلامي في الوقت نفسه، وهي الفكرة التي طرحها جمال عبد الناصر في كتاب «فلسفة الثورة.
وجرى طرح أفكار أخرى من نوع «الكومنولث الإسلامي» في تصور لاحق لمالك بن نبي، وكلها أفكار تأخذ بمنطق العصر، ودواعي اكتساب القوة، ولا تتنكر لروابط التاريخ والحضارة والعقيدة في الوقت نفسه. وبدت أكثر حيوية من أفكار تكلست على حجر الماضي، ومن نوع قول حسن البنا «ان الإسلام قومية»، وقول جماعته الإخوانية انها تريد إقامة دولة الخلافة بعد انهيار الخلافة العثمانية.
وحين سئل البنا عن تصوره لهذه الخلافة، قال الرجل انها «عصبة أمــــم إسلامية» على طريقة منظمة عصبة الأمم التي كانت قائمة دوليا في ثلاثينيات القرن العشرين، لكن سيد قطب كان أكثر وضوحا وصراحة البنا، وتحدث عن ما سماه «الطليعة المؤمنة» العنيــــفة بطبعها.
ومن هنا، خرجت جماعات اختطـــاف واحتكار الإسلام، وصولا إلى «داعش» وأخواتها، والتي تسعى لإقامة ما تسميه دولة الخلافة الدينية، بينما لا شرع ولا دين في القصة كلها.

٭ كاتب من مصر

عبد الحليم قنديل

حول الموقع

سام برس