منصف الوهايبي
أخبرتني قريبة تونسيّة تعيش في فرنسا أنّها قرّرت بعد جريمة «شارلي إيبدو»، وتحت وطأة الإسلاموفوبيا؛ أن تتخلّى عن حجابها، بل ألزمت بناتها الثلاث بذلك، وطلبت من ابنها أن يؤدّي فروضه الدينيّة (الصلاة) في البيت؛ وليس في المسجد. وهذا السلوك الذي يمكن أن يتحوّل إلى ظاهرة، قد لا يكون أكثر من صورة لـ»تقيّة» معاصرة. والتقيّة في حدّها الجامع المانع عند الفقهاء والمفسّرين، «إخفاء المعتقد أو كتمان الحقّ خوفا من ضرر في الدنيا والدين، ومعاشرة ظاهرة مع العدو المخالف والقلب مطمئن بالعداوة والبغضاء، وانتظار زوال المانع من شق العصا». ولها شأن في تاريخ الإسلام، فهي سلوك أساسه المداراة والمخاتلة، يستوقفنا منذ فجر الدعوة، سواء في النصّ القرآني أو في الحديث النبوي. من ذلك ما جاء في سورة «آل عمران»28 :»لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ». أو في سورة «النحل»: «إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ».

أما الأحاديث فمنها ما ذكره البخاري عن النبي الكريم: «إنّا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم؛ وإنّ قلوبنا لتلعنهم». وكشر بمعنى ابتسم. وفي رواية أخرى»نبشّ» بدل «نكشر» وهي رواية ضعيفة. وكذلك قوله: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وهذا يدلّ على انّ التقيّة يمكن أن تكون بدافع الإكراه أو الاستكراه. ولكن جاء ما يدلّ أيضا على أنّها تكون بدافع سياسي، كما في خبر مقتل كعب بن الأشرف وهو عربي طائي ومن يهود يثرب نسبة إلى أمّه من بني النضير، ومن فحول شعرائهم. وأرجّح أنّ شخصيّة كعب في رواية سلمان رشدي «الآيات الشيطانيّة»، مشتقّة من سيرة هذا الشاعر الذي هجا النبي وشبّب بنساء المسلمين. وعلى الرغم من ذلك عدّ ابن سلام الجمحي شعره من الجيّد بعبارته، وذكره مع شعراء يهود آخرين مثل السموأل بن عادياء الذي ضرب به الأعشى المثل في الوفاء في قصة معروفة، والربيع بن أبي الحقيق وشريح بن عمران… وقد ساق البخاري قصّة مقتل كعب بكثير من التفاصيل. وهي قصّة عجيبة مفصّلة في الصحيحين وغيرهما.

أمّا قول البعض إن الشيعة انفردوا بالتقيّة دون سائر المسلمين، فقول شطط لا سند له من تاريخ المسلمين. فقد راوح الشيعة بين وجوب التقيّة وإباحتها وتحريمها. ولم يختلفوا كثيرا عن السنّة، فقد أجاز علماء من السنة التقيّة في القول وفي الفعل معا، شأنهم شأن طائفة من الخوارج المعروفين بالنجدات، حتى لو أدّى ذلك إلى قتل النفس التي حرّم الله قتلها. واعتبر الغزالي أنّ الكذب واجب، إذا كان القصد عصمة دم المسلم. وقيّدها بعضهم مثل الطبري، بإقامة المسلم بين كفّار يخشاهم على نفسه أو ماله، بل منهم من رخّص فيها حتى إذا كان المسلم يقيم بين مسلمين حالهم من حال الكفّار أو أهل الشرك. قال بهذا الإمام الشافعي وابن حزم الظاهري. والغريب أنّ التقيّة لم تكن مقصورة على أيّام ضعف الإسلام، بل هي جائزة للمسلم من سنّ بلوغه إلى موته، حتى في عزّ الإسلام وقوّته.
قال الجاحظ في حواره مع أهل الحديث، بعد أن أتى على محنة الإمام أحمد ابن حنبل وقد أقرّ تحت التعذيب بأنّ القرآن مخلوق، على نحو ما يقول به المعتزلة: قد كان صاحبكم هذا (ابن حنبل) يقول لا تقية إلا في دار الشرك. فلو كان ما أقرّ به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية؛ فلقد أعملها في دار الإسلام وقد كذب نفسه، ولو كان ما أقرّ به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم.
ومن أعجب ما قرأت في التقيّة رسالة من فقهاء المغرب إلى العرب المتنصّرين في الأندلس، نشرتها المستعربة الاسبانيّة مرثيديس غارثيا أرينال، في كتابها الممتع: «الموريسكيون الأندلسيّون». وهي إجابة عن سؤال: ماذا يفعل المسلم إذا أُكره على التخلّي عن عقيدته، ودخل في دين آخر؟ والجواب يكمن في هذا المصطلح بالغ الدلالة: التقيّة التي شُرّعت منذ فجر الإسلام كما سلفت الإشارة، إذ كان المسلم مضطرّا إلى إخفاء عقيدته، بل كان يجوز له أن يتظاهر بالكفر، للأسباب التي أسلفنا. تقول أرينال إنّ الإسلام أجاز لأتباعه أن لا يوفوا بالتزاماتهم الدينيّة، في حال الاضطرار، حتى لا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة. ويشترط إخلاص القلب لا غير. وعلى أساس من هذه التقيّة كان الموريسكي الأندلسي المغلوب على أمره، يمارس الشعائر المسيحيّة وهو وادع النفس مستريح الضمير. وممّا جاء في هذه الرسالة، إجابة مفتي وهران على أسئلة وردت عليه من الأندلس في مايو/أيار من عام 1563: الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسليما. إخواننا القابضين على دينهم كالقابض على الجمر، ممّن أجزل الله ثوابهم، في ما لقوا في ذاته… بعد السلام عليكم من كاتبه إليكم أحمد بن بوجمعة المغراوي الوهراني… مؤكّدا عليكم في ملازمة دين الإسلام آمرين به من بلغ من أولادكم؛ إن لم تخافوا دخول شرّ عليكم من إعلام عدوّكم بطويّتكم… اعلموا أنّ الأصنام خشب منجور وحجر جلمود لا يضرّ ولا ينفع، وأنّ الملك ملْك الله ما اتخذ من ولد وما كان معه من إله، فاعبدوه واصطبروا لعبادته:
فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هديّة لفقيركم أو رياء؛ لأنّ الله لا ينظر إلى صوركم ولكن إلى قلوبكم، والغُسل من الجنابة ولو عوما في البحور. وإنْ مُنِعتم فالصلاة قضاء بالليل لحقّ النهار… وعليكم بالتيمّم ولو مسحا بالأيدي للحيطان؛ فإن لم يُمكن فالمشهور سقوط الصلاة وقضاؤها… وإن أجبروكم على شرب خمر فاشربوه، وإن كلّفوا عليكم خنزيرا فكُلوه ناكرين إيّاه بقلوبكم ومتقدين تحريمه، وإن أكرهوكم على إنكاح بناتكم منهم، فاعتقدوا تحريمه لولا الإكراه… وكذا إن أكرهوكم على ربا أو حرام فافعلوا منكرين بقلوبكم، وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإنْ أمكنكم التورية والإلغاز فافعلوا؛ وإلاّ فكونوا مطمئنّي القلوب بالإيمان إنْ نطقتم بها… وإن قالوا: اشتموا محمّدا، فإنّهم يقولون له: مُمَدْ. فاشتموا مُمَداً ناوين أنّه الشيطان أو مُمَدْ اليهود فكثير بهم اسمه. وإن قالوا: عيسى ابن الله، فقولوها إن أكرهوكم وإن قالوا: قولوا مريم زوجة له، فانووا بالضمير ابن عمّها الذي تزوّجها في بني اسرائيل ثمّ فارقها قبل البناء…». ويختتم الوهراني رسالته في التقيّة، بالدعاء لهؤلاء الموريسكيّين المتنصّرين إكراها: وأنا أسأل الله أن يُديل الكرة للإسلام حتى تعبدوا الله ظاهرا بحول الله، من غير محنة ولا وجلة؛ بل بصدمة الترك الكرام.
لا أحبّ أن أسترسل في الكلام على هذه الرسالة، وقد أوردت أهمّ ما فيها. ولكنني أشير إلى أنّ أعضاء محاكم التفتيش، تفطّنوا إلى أمر هذه التقيّة. من ذلك ما جاء في رسالة أحدهم: إنّ الموريسكيّين يمكنهم، إذا أُجبروا على الكفر؛ أن يفعلوا ذلك في الظاهر، وأن يكتموا إيمانهم في القلب. وأنّهم هكذا يدخلون الجنّة. ومن حقّ بعضنا أن يخشى اليوم بسبب الإسلاموفوبيا من «الديمقراطيفوبيا» التي يمكن أن تدفع ملايين المسلمين في الغرب إلى «التقيّة» ثانية، وإلى إخفاء معتقدهم الديني. والديمقراطيّة على جلال قدرها، تنطوي على الكثير من الالتزامات العامّة الطوباويّة التي لا تؤدّي إلى قوانين دقيقة أو التزام حقيقيّ كلّما تعلّق الأمر بنا نحن. لعلّنا اليوم أحوج ما نكون إلى إعادة تأصيل للأصول نفسها والاستدراك عليها، بحيث نضيف إلى قيمة استعمال السلعة وقيمة تبادلها في مجتمع استهلاكي مثل مجتمعاتنا، قيمة ثالثة هي قيمة التبادل الرمزي، عسى أن نستعيد البعد الثقافي داخل عمليّة التبادل الاقتصادي وندرك أنّ الحوار الذي ننشده، ذو قيمة رمزية دلالية محورها منظومة من الرموز يُفترض أن تكون مشتركة بيننا.

٭ كاتب تونسي
القدس العربي

حول الموقع

سام برس