د. سعيد الشهابي
في زمن الصراعات الداخلية بين المجموعات البشرية يبدو الحديث عن «الوحدة» او «الامة» او «التضامن» اقرب للخيال منه إلى الواقع. فاصوات بنادق الموت ودعوات التشطير ورفض الآخر اقوى من اصوات العقل والتفاهم والحوار. كانت هناك امم وحضارات ساهم اهلها في اعمار الارض وتركوا وراءهم ما يشهد بجهودهم وما يدفع احفادهم للشعور بالفخر والسعي لمحاكاة ما فعله الاسلاف. يشعر المصريون وهم ينظرون للاهرامات والمعابد ان لديهم انتماء تاريخيا امتد اكثر من اربعة آلاف عام. وحين ينظر العراقي الى آثار حضارات بابل والآشوريين وسواهم يتعمق الشعور لديه بالامتداد التاريخي والحضاري. وكذلك السوري والتركي والفارسي.
ومن المؤكد ان هؤلاء جميعا يشعرون بعمق انتمائهم للإسلام حين يقرأون تاريخ تلك الحضارة وما قدمته للانسانية من خير، خصوصا في مجالات العقيدة والاخلاق والعلم. ينظر المسلم في تاريخه ليرى كيف ان حضارته احتضنت الجميع واعتبرت من يستظل بظلالها عنصرا متكافئا مع الآخرين، وان لم يكن مسلما. احتضنت تلك الحضارة اليهودي عبد الله بن ميمون الذي اجبر على التحول للإسلام ولكن الحاكم آنذاك سمح له بالعودة ليهوديته. اما عالم الرياضيات المعروف بـ «السموأل المغربي» فقد اعتنق الإسلام وشرح لوالده اليهودي اسبابه المنطقية لذلك. عرف المسلمون ان الحضارة لا تتم الا بمشاركة انسانية، وان العطاء العلمي والفكري ملك للجميع.
فانتشرت الترجمة ونقل المسلمون فلسفة اليونان إلى الغرب بالترجمة والدراسة. تعلم المسلمون علوم الطبيعة كجانب من مهمتهم الدينية وطوروها في الوقت الذي كان الفقهاء يتناقشون ويتفقون ويختلفون، ويحترم بعضهم بعضا. كانت سعة عقول العلماء الذين جمع الكثيرون منهم بين علوم الفقه والفلسفة والطبيعة، ترتفع بهم إلى آفاق رحبة من التعايش مع الآخر المختلف فكريا او دينيا او مذهبيا بدون غضاضة. فالحضارة التي لا تؤمن بالتعددية لا يمكن ان تستمر، ومن يؤسس كيانا سياسيا على اساس الاقصاء ومعاداة من لا يتوافق معه في الدين او المذهب لا يمكن ان ينجح في مسعاه. ومن لا يؤمن بقراءة تاريخ الامم والحضارات ويستفيد من عطائها وما قدمته للبشرية لا يستطيع صناعة المستقبل. ولذلك كانت مشاهد تدمير الآثار في العراق وسوريا مقززة لمن شاهدها. وربما من اهم النتائج التي يتوصل اليها من يتدبر في ما كان يحدث ان التيارات التي تمارس هذا التدمير ليس لها نصيب من البقاء. فهي كالاعصار المدمر الذي يضرب منطقة ما ويحدث فيها تدميرا واسعا، ولا يلبث ان يفقد قوته ويتلاشى.
ان الحضارات لا تقوم الا ضمن توافقات داخلية وتعايش سلمي بين مكوناتها، وتتصدع حين تنطلق دعوات الفرقة والتناحر على اي مستوى: عرقي او ديني او فكري. وبالاضافة لوضوح الرؤية والرغبة في البناء لا تقوم الحضارات الا اذا تمتعت بسمة الاحتضان، اي قبول الانسان، بما هو انسان، ليكون مكونا فاعلا لديها، وليس طارئا او ضيفا. فالتعدد الفكري وتنوع الاجتهادات من عوامل الثراء والتطور، بينما الجمود والاقصاء ورفض التجديد وتجميد دور العقل، كلها من سمات التخلف والتراجع. اليوم تعيش امة المسلمين حالة من التدمير الذاتي على كافة الأصعدة. فالتكفير والاقصاء وقطع الاواصر بين ابناء الامة الواحدة وتفريق ابناء الدين الواحد فضلا عن رفض اصحاب الديانات الاخرى كلها من عوامل التدمير الذاتي الذي لا يمكن ان يؤدي للتطور «ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، لست منهم في شيء». وحين تصرف طاقات الامة على الاحتراب البيني والتدمير من الداخل فمن غير المنطقي حدوث تطور او نماء. فبلدان مثل العراق وسوريا ومصر وليبيا والبحرين تشهد نزوحا للعقول القادرة على التفكير والعطاء، فالعلماء لا يستطيعون العمل في بيئات مضطربة وقتل جماعي بالقنابل البشرية او استهداف الانظمة القمعية. هؤلاء يجدون احتضانا لهم في دول الغرب التي ما فتئت تبحث عن العقول القادرة على المساهمة في التطوير العلمي وخدمة المجتمع. يضاف إلى ذلك فان ما ينفق اليوم على الحروب الداخلية كميات هائلة من الثروة لتكون الخسارة مضاعفة: ثمن ادوات التدمير وثمن الاهداف المدمرة وبعدها اعادة بناء ما تم تدميره. كما ان الاضطرابات الداخلية تستغل لابتزاز الانظمة ذات القدرات المالية الكبرى، خصوصا الدول النفطية. فتنشط شركات السلاح الغربية لتشجيعها على عقد الصفقات وشراء الاسلحة التي يندر استخدامها ضد اي عدو خارجي، بل ان اغلبها يستخدم للقمع الداخلي. وكلما نشطت تلك المجموعات المتطرفة هرع الحكام لتوقيع صفقات السلاح العملاقة التي تنفق عليها دول مجلس التعاون الخليجي حاليا حوالي 150 مليار دولار سنويا. فكيف يمكن تخصيص موازنات لتنمية حقيقية، خصوصا مع وجود الاضطرابات السياسية الاخرى الناجمة عن رغبة الشعوب في تحقيق شيء من الاصلاح السياسي؟
هناك امثلة عديدة لعبثية الاقتتال الداخلي وما يجره على الامة من وبال. فالحرب الجزائرية التي اعقبت الغاء التجربة الديمقراطية في 1992 ادت لقتل اكثر من مائة الف انسان طوال العقد التالي. وما النتيجة؟ المجموعات التي مارست القتل الجماعي وقامت بتصفية قرى كاملة بالذبح والسلب، تلاشت تدريجيا بعد ان اوقعت من الدمار والخراب البشري والمادي الشيء الكثير. وماذا عن حركة طالبان؟ لقد استطاعت بعد ان شارك في تشكيلها الاستخبارات الباكستانية والامريكية والسعودية السيطرة على حكم افغانستان، وانتهجت سياسات متطرفة، فاغلقت مدارس البنات ودمرت اشرطة الفيديو واقامت المحاكم «الشرعية» ودخلت في صراع مع مجتمعها ومكوناته الاجتماعية والسياسية. فماذا كانت النتيجة؟ سقطت حكومة طالبان ودخلت افغانستان بعدها في حلقة من العنف الذي لم يتوقف حتى الآن. هذه المجموعات ليست مشاريع دول او حضارة، بل منغصات لمنع قيام منظومات سياسية حديثة قادرة على تطوير الامة وصناعة الحضارة على اسس التنمية والتعايش والنمو الفكري والمجتمعي. انها مشاغبات مصطنعة لا تعكس جدية على طريق اقامة نظام سياسي او فكري ينافس ما لدى الامم الاخرى. فالدول لا يشيدها التطرف او الاقصاء او استعداء الآخرين او افتعال الازمات. وحتى الدول الغربية القائمة حاليا تعاني من هذه الاشكالات.
فالدول التي تتبنى منظومات ديمقراطية وحقوقية بقدر من الصدق مرشحة للتقدم والتطور، بينما تعاني الدول التي تساوم على المبادىء كثيرا لا تحظى بنصيب كبير من التقدم والنماء الاقتصادي. هذه الدول تعيش على بقايا امجادها ونفوذها ولا تستطيع اضافة شيء ملموس لشعوبها، ولذلك فهي تساير انظمة الاستبداد والظلم والاحتلال معتقدة ان ذلك سيوفر لها مدخولات مالية كبيرة. وحين اتخذت السويد الاسبوع الماضي قرارها بوقف صفقة عسكرية مع السعودية احتجاجا على ما تعتقده من انتهاكات لحقوق الانسان، فانها عبرت عن موقف غربي متميز لا تستطيع بريطانيا او الولايات المتحدة مجاراته. وليس مستبعدا ان يؤدي ذلك لشيء من التطور في سياسات الاتحاد الاوروبي ازاء قضايا الحريات والديمقراطية وحقوق الانسان في العالم. فحين تلوح بريطانيا بين الحين والآخر برغبتها في الانسحاب من اوروبا او من المحكمة الاوروبية لحقوق الانسان، وحين تساوم على مبادئها بدعاوى واهية من بينها التأثير السلبي للمواقف المبدئية على ما تسميه «الحرب ضد الإرهاب»، فانها تكون قد قطعت شوطا على طريق تداعي النفوذ معتمدة على آمال غير واقعية على استحصال اموال كبيرة عن طريق صفقات التسلح مع انظمة تقمع شعوبها. وثمة حقيقة اخرى تقول ان الحضارات حين تتورط في الصراعات العسكرية فان ذلك بداية لسقوطها. أليس هذا ما تفعله امريكا وبريطانيا حاليا؟ بينما الصين والهند تركزان على البناء الذاتي وتحاشي الحرب ما امكن.
والسؤال هنا: هل يمكن بناء كيان إسلامي قوي في عالم يمتلئ بالضباع وتجار الاسلحة والشركات المتعددة الجنسية؟ قبل الاجابة على ذلك تجدر الاشارة إلى الصراع المحتدم بين مقولتين: احداهما يعتقد اصحابها بامتلاكهم الحق المطلق، ومن عداهم لا يملك من الحق شيئا، وهذه هي التوجهات الاقصائية والتكفيرية المتطرفة، والمقولة الشهيرة المنسوبة للامام الشافعي: رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب. وحين يسود المنطق الثاني تصبح الانسانية بخير لان افرادها يستطيعون العيش ضمن دوائر الاختلاف الناجم عن استخدام العقل والمنطق والدليل. وبالانسانية يمكن تشييد الحضارات التي ينصهر فيها الجميع، وتزداد ثراء بتعدد الآراء والمواقف والنظريات والحوار والسجالات العلمية. كما يؤكد التاريخ ان ذوي الاتجاهات المتطرفة لم يفلحوا في اقامة منظومات سياسية قادرة على التمدد واحتواء الآخرين. فالقرامطة انطلقوا ولكن حاصرتهم افكارهم واطروحاتهم فانكمشوا. بينما امتدت دولة الفاطميين قرونا لأنها تبنت العلم وفتحت ابواب الحرية والتعددية. هل امتنا قادرة على الانطلاق؟ لا شك انها تتوفر على مقومات الحضارة، خصوصا عقيدتها الدينية الراسخة القادرة على جذب الآخرين واحتضان كافة الآراء. لقد كانت مساجد المسلمين مفتوحة للجميع: فيطرح الزنادقة حججهم ليرد عليها الائمة والفقهاء بالمنطق والدليل، وليس بالتكفير والزجر. لكي تنهض الامة تحتاج لهزة داخلية تدفع باهل العلم والمنطق والفكر إلى الواجهة وتحاصر ذوي الافكار الهدامة ومناهج التطرف والتكفير. ومن الضرورة تجاوز الذين يستهلكون طاقات الامة في احتراب داخلي وترويج منطق اعوج يغيب عنه العقل و المنطق ويغلب عليه التقليد الاعمى والجمود على نصوص كتبها البشر، وتقديس التاريخ الذي كتب في بلاط الطغاة، هذا ليس مقبولا ولا يضيف للمسلمين شيئا ولا يفتح امامهم ابواب العلم والمنطق ولا يطلق العنان للعقل الحر لسبر اغوار الكون والتحليق في عالم الايمان والحرية والانعتاق من قيود الجاهلية.

٭ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

حول الموقع

سام برس