د. ابتهال عبدالعزيز الخطيب
تتحقق الديمقراطية الحقة عندما تقوم على المبادئ الانسانية التي لا تخل بحقوق الأقلية وترعى مصالحها وتنظر بكل جدية لضعفها في المجتمع. لا شيء يمكنه أن يشوه الديمقراطية مثيرا زوابع الغضب في صفوف الشعوب مثل غياب حقوق الأقلية، وإن كان تعريف الأقلية مهم اليوم في شرقنا الأوسطي، حيث لم تعد الأقلية وصفا لعدد فقط، بل لقدرة سياسية وتمكين سلطوي، أو في الواقع لغيابهما، كما هو الحال مع «الأقلية» الشيعية البحرينية و»الأقلية» السنية السورية والليتن هما في الواقع الأكثر عددا من «الأغلبية» السلطوية الأقل عددا في البلدين. كتب الدكتور شفيق الغبرا مقالا مهما حول قضية التهميش الذي يصيب هذه «الأقليات» في جريدة «الحياة» في 13 أغسطس/أب بعنوان «المهمشون في معارك الدول العربية» يعرف فيها المفهوم قائلا «يقع التهميش عندما تشعر فئات من المجتمع بأنها تعاني من التمييز بسبب الخلفية الاجتماعية والعائلية أو القبلية أو الدينية والطائفية أو الجنسية (المرأة) أو الاقتصادية والجهوية والمناطقية والعمرية». يؤكد الدكتور أن هذا الشعور بالتمييز اذا ما تداخل «مع عوامل اجتماعية ودينية وعمرية ومناطقية، يتحول إلى قنابل موقوتة لا يمكن الا أن تنفجر في وجه النظام السياسي». والتهميش، كما يراه الدكتور، يعني حرمان الفئة المهمشة من المشاركة في العمل السياسي، من مميزات العامة، من العيش في مناطق معينة، من العمل في مواقع معينة، من الاهتمام بشؤونها ومصالحها كما شؤون ومصالح العامة. هذه العملية ستخلق «مشكلة أعظم للنظام السياسي»، حيث يرى الدكتور أن المرتبط بالقوى المهيمنة سيشعر بملكيته للدولة وغير المرتبط بها سيشعر بـ«الغربة والانزواء عن الدولة ومؤسساتها».

لطالما كنت أعتقد بأننا نتحمل مسؤولية الأغلبية الغالبة من مشاكلنا وما تفرزها من تشكيلات متطرفة عنيفة. فأنظمتنا الشمولية القائمة على التمييز والتهميش تجاه شعوبها تخلق ليس الغاضبين المسالمين فقط، كما يقول الدكتور الغبرا، ولكن كذلك تخلق «الانتحاريين والمفجرين في الجانب العنفي». فحتى الانسان المنتمي لعائلة مرموقة، كما يدلل الدكتور، والمستريح ماديا، إذا ما شعر بالتهميش بسبب انتمائه العائلي أو الطائفي وما يترتب على ذلك من منع المواقع المهمة عنه والتشكيك في وطنيته سيتعايش «مع تهديد وربما إذلال، ولا يشعر بنعمة الأمن التي يشعر بها الآخرون» وعليه يتجه إلى «ضمانات وشراكات غير عادلة» ليضمن حقوقه، فتتأسس الطائفية والقبلية والفئوية على أسس منيعة يصعب إزالتها فيما بعد.

يقول الدكتور أن هذا التهميش يؤدي إلى نتائج أكثر خطورة اذا ما شعر المهمشون بالتحدي، كما أن التهميش هو ما يؤسس للنظام السياسي التالي وإلى «نشوء دور المهمشين» ويضرب أمثلة على ذلك من تاريخنا العربي الحديث حيث «برز العلويون من المهمشين في الجبال كما الناصريون والتكارتة من الريف، أما الشيعة في العراق فبرزوا من صفوف المهمشين في زمن البعث، وسنة العراق يثورون اليوم من جراء تهميش ما بعد 2003، وبرز «حزب الله» من قاعدة تهميش الشيعة في لبنان، وكذلك الحوثيون في اليمن، والجنوبيون في عدن وغيرهم. كانت تلك فئات قد همشتها أنظمة سابقة لم تعد قائمة اليوم». يؤكد الدكتور أن الخطورة تمكن في روح الانتقام التي تصاحب المهمشون في رد فعلهم عند وصولهم إلى سدة السلطة مما يخلق لهم الفرصة «لظلم فئات ارتبطت معنويا وسياسيا بالنظام القديم».

هذا المشهد: التهميش، الغضب، الثورة، الاستحواذ على السلطة، ثم العودة لتهميش السلطويين السابقين هو مشهد متكرر في العالم العربي على وجه التحديد، وان كانت إيران، كما ذكرها الدكتور، هي مثال غير عربي واضح جدا على هذه الدورة السيئة. هذا الحالة التهميشية المستمرة تضعف من الداخل الوطني في مقاومة الأنظمة الارهابية العنيفة، حيث يتساءل الدكتور «كيف يمكن لمجتمع فيه نسب عالية من المهمشين وتنقصه الحريات والقيم الحرة والضمانات الحقوقية، أن يقف صفا واحدا في معركة ضد العنف والإرهاب في المجتمع؟» ينحو المهمشون إما لاستمرار تهميشهم، فبما أنهم مهمشون في المصالح، فالكثير منهم سيصرون على البقاء مهمشين في الصراع والمقاومة وسينحون إلى الصمت أو المقاومة السلمية التامة حيث أن «قطاعا كبيرا من المجتمع لا يعتبر المعركة معركته حتى لو لم يعلن ذلك،» في حين أن البعض منهم ينحون إلى «صف العنف والتدمير» كما يرى الدكتور.

لابد من تحقيق قيم العدالة والمساواة والحرية والديمقراطية غير الإقصائية، لا بد لنا أن نخرج من نظام الشورى النخبوي الذي يعلي الأغلبية ويهمش الأقلية إلى نظام الديمقراطية العادلة الانسانية التي تعلي الحق الانساني على القرار الجماعي. وبغير ذلك، سنبقى ندور في دائرة التهميش التي لا تفرز سوى المزيد منه. «الدولة المحايدة ما زالت في مقدمة الحلم العربي الصاعد» كما يرى الدكتور، فمتى يصبح الحلم حقيقة؟
نقلا عن القدس العربي

حول الموقع

سام برس