بقلم / عقيل سعيد محفوض
قضى الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان 14 ساعة في الطائرة قاصداً واشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، والتباحُث في قضايا كثيرة ومعقّدة، منها عملية أستانة، وعلاقة الولايات المتحدة بكرد سوريا، ومعركة الرقّة.

وقد أشاع الإعلام الموالي لأردوغان قبيل الزيارة أن الأخير ربما يتسلّم رجل الدين التركي المقيم في أميركا فتح الله غولن، وقد يعيده معه إلى تركيا في الطائرة الرئاسية نفسها. وقال أردوغان قبيل سفره إلى واشنطن: "أرى هذه الرحلة بمثابة معلم جديد في العلاقات التركية- الأميركية".

غير أن ترامب لم يخصّص سوى عشرين دقيقة للقاء أردوغان، ولم يكن مستوى استقباله في المطار مناسباً كثيراً، إذ استقبلته نائبة رئيس البروتوكول روزيمير بول، وفي ذلك حرجٌ كبير لرجل من نمط أردوغان الذي فاز في استفتاء تعديل الدستور وأصبح قريباً من إعلان سلطنة جديدة في تركيا. وعلى سيرة السلطنة، فقد كان العثمانيون في آواخر أيامهم مولعين بالولايات المتحدة، حتى أنهم فكّروا جدّياً بدعوتها للانتداب على السلطنة، هذا ما عبرّ أعيان السلطنة ومثقّفوها لـ "لجنة هاربورد" الأميركية التي أُرسلت إلى تركيا في أيلول/سبتمبر 1919، وفي تركيا –منذئذٍ- هوى أميركي كان له دور في اصطفافها مع الغرب وانضمامها لحلف الناتو عام 1952، وهو ما شبّهه اليسار هناك بانتداب أميركي غير مُعلن على البلاد.
 
ماذا يفعل أردوغان إن كان ترامب لا يعلم كل هذا، وليس لديه الحماس نفسه لإقامة "مناطق آمنة" أو مناطق "حظر جوّي" في سوريا، ولا يهتّم كثيراً بقواعد البروتوكول، وقد لا يستمع لمستشاريه، الذين لا بُدّ نبَّهوه بشأن العشرين دقيقة؟ الأرجح أن أردوغان لن يفعل شيئاً، ليس لأن ما حدث كان قليل الأهمية، ولا لأن "روحه رياضية" إلى ذلك الحد، وإنما لأنه ببساطة لا يستطيع فعل شيء، حتى مجرّد التعليق على طريقة الاستقبال أو العتب على مدة اللقاء أمام رئيس يتموضع جيشه في حوالى أربعين قاعدة وموقعاً عسكرياً في تركيا.

ذهب أردوغان للتباحث في قضايا، ربما كان ترامب قد توصّل إلى تقديرات أو ترتيبات بشأنها، وخاصة بعد لقائه وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف (10 أيار/مايو الجاري)، ومن ذلك مثلاً ما يخصّ علاقة الولايات المتحدة بالقوات الكردية في شمال سوريا وشرقها، وتقديمها دعماً متزايداً لها، متجاهلة الاعتراضات التركية بهذا الخصوص، كما أن واشنطن شاركت، بصفة مراقب، في لقاء أستانة الأخير، ولم تَعُد تركيا هي ممثلها غير الرسمي فيها، ولا عينها على عملية يُطلِعُها الروسُ على مدخلاتها ومخرجاتها أولاً بأول. ومن الواضح أن واشنطن أصبحت أقل اعتماداً على أنقرة في التدخّل العسكري في سوريا، وخاصة بعد أن أظهر الكرد استعداداً وقابلية متزايدة لأن يكونوا البديل الميداني عن حلفاء تركيا في شمال سوريا.

كان الحديث عن خيبة أردوغان من ترامب تقديرياً أو احتمالياً، غير أن لقاء العشرين دقيقة يؤكّد –بما يشبه اليقين- أن تلك الخيبة تحوّلت صدمةً أو جرحاً، ذلك أن تركيا لا تستطيع أن تقطع مع الولايات المتحدة. قد يرفع أردوغان الصوت ويشاغب في الإعلام، وإلى حدٍ ما في الميدان، ولكنه لا يستطيع أن يغيرّ تموضع بلاده على أطراف الناتو، ولا أولوياتها وتحالفها معها قيد أنملة.

 
أعطى لقاء العشرين دقيقة في البيت الأبيض رسائلَ واضحة، ذلك أن واشنطن لن تتخلّى عن القوات الكردية في سوريا، وهي مستعدّة لأن تذهب في تسليح الكرد ودعمهم وطمأنة مخاوفهم التركية أبعد مما فعلت حتى الآن، ولكن ذلك لا يعني أنها سوف تغيّر سياساتها القاضية بالاعتماد على "توازن دقيق" بين حلفين متخاصمين، أو أنها تسمح للكرد باستفزاز تركيا أو إثارة مدارك تهديد عالية لديها. وقد وعد البنتاغون تركيا "بممارسة رقابة لصيقة على كل الأسلحة التي يتم تزويد الأكراد بها، وبتقديم تعاون استخباراتي أعمق لمساعدة تركيا في حماية حدودها". (تصريحات، 16 أيار/مايو الجاري).

إن حال المد والجذر  بين واشنطن وأنقرة لم تؤثّر كثيراً في موقفهما من دمشق، وأما الاختلافات النسبية في قراءة كل منهما للدور الروسي ولعملية أستانة وحتى عملية جنيف فهي بمثابة تنويعات على متن واحد، وهو العداء لدمشق، ورهان السيطرة ما أمكن على المشهد السوري، وإقامة تحالف إقليمي أو "ناتو إسلامي" بمشاركة إسرائيل وقيادة الولايات المتحدة، هدفه الرئيس هو تفكيك حلف المقاومة، و"إخراج" إيران وحزب الله من سوريا، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط على إيقاع أميركي وإسرائيلي دقيق.
 
ومن الواضح أن التباحث في ذلك يتطلّب لقاء أطول مما قرّره الرئيس ترامب. وقد يعود أردوغان إلى أنقرة، متمنّياً لو أن تلك الزيارة لم تكن، ولسان حاله يقول ما قاله أحد شخوص الروائي حنا مينة: "المبضع لا يصنع جرحاً، الخيبة تصنع الجرح".

المصدر: الميادين نت
 *باحث وكاتب وأكاديمي سوري

حول الموقع

سام برس