بقلم / خالص جلبي
نحن الآن في صيف عام 1438هـ، حيث يجتمع مليونان من البشر في مكة المكرمة، من أجل أداء عبادة سنوية، تمارس فيها أفعال بهمة وحماس، من مسلمين جمعوا المال لهذه الفريضة من طنجة حتى كازاخستان، لكن البعض أفرغها من المعنى، كما فعلوا مع بعض العبادات الأخرى. فالصلاة من دون خشوع، والصوم فرصة لموائد عامرة، والزكاة غير موجودة في ظل البنوك الربوية، وخطبة الجمعة ميتة.. لكن الأدهى أن موسم الحج الذي شرع من أجل السلام، أصبح كأي وقت آخر يتحارب فيه المسلمون!
في سوريا هلك مليون من الأنام، وفي ليبيا عشرات الآلاف، وفي الجزائر من قبل قتل نحو مئة ألف، وفي لبنان قبل ذلك اندلعت حرب أهلية ليخرج من رحمها من يدعي أنه يمثل الله، فيلبس عباءته وقلنسوته.

وفي أفغانستان يهيم سبعة ملايين على وجوههم حذر الموت، وفي العراق تبدلت الجملة الشهيرة «بعد خراب البصرة» إلى «بعد خراب الموصل»، أما الصومال فقد هلك فيه الحرث والنسل. إنه منظر يمتد على طول خريطة العالم العربي، في حدة تتراوح -مثل مرض التيفوئيد- بين حرارة وتشنج ونزف والتهاب، فلم تبق زاوية آمنة في العالم العربي.

لذلك فالسؤال الذي ليس له جواب هو: لماذا شرع الحج؟ ولماذا في هذا المكان تحديداً؟ ولماذا تجول إبراهيم عليه السلام في جلّ الشرق الأوسط لينتهي إلى مكان غير ذي زرع، ويبني مع ابنه إسماعيل الكعبة المشرفة، كرمز لبني آدم كي يأتوا إلى هذا المكان في وقت معين من العام، وبلباس معين، حيث يحرم الصيد حتى ولو اقترب الطير مسافة ذراع من الحاج، كما يحرم عليه قص الشعر والظفر. يأتي الحجاج متلفعين بالبياض، وكأنه يوم الحشر في ديمقراطية صارمة لا تفرق بين غني وفقير، ليطوفوا في دوائر ويهرولوا في مسعى محدد. والسؤال هو: لماذا هذه الأفعال تحديداً؟

في الواقع إذا لم تختلط الطقوس والحركات والأفعال بالمعنى والترميز الأصلي للعبادات، فإنها تفقد حرارتها الإيمانية الخلاقة.

كنت يوماً في المسعى أقوم بتأدية العمرة، فركضت مع زوجتي بين الخطين الأخضرين، لكن من يبدو أنه متشدد سلفي نهرنا قائلا: محرم على المرأة الركض! قلت له: وهل ركض هنا غير هاجر تبحث عن الماء لطفلها، فانبجس الماء من زمزم؟!

القرآن ذكر أن هذا البيت هو للناس، لكن المسلمين -وهم أهل رسالة- يظنون أن ماجرى لأهل الكتاب لن يجري لهم، وفي الحديث الصحيح أننا سوف نتبع سنن من قبلنا حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه. لكن بيننا وبين إدراك هذه الحقيقة مسافة سنة ضوئية.

والآن نعود للنقطة المهمة من مراسم الحج، فحج العرب قبل الإسلام هو ما قال عنه تعالى: «وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية»، لكن هل يخطر في بالنا أن العرب، ومن روح البيت العتيق اخترعوا لأنفسهم أشهراً أربعة يتوقفون فيها عن القتال؟ ولماذا أراد إبراهيم ذبح ابنه ففداه الله تعالى بذبح عظيم؟

يمر الحج بعد الحج مع الشحن الروحي المستمر بمعنى السلام، دون إدراك أن خلف هذا المعنى الضخم حول الكف عن التضحية بالإنسان على أي صورة، دعوة إلى التوقف عن الحرب بأي صورة؟ إن دم الإنسان في المعنى الحقيقي للحج وباقي المنظومة الدينية، حرام أشد الحرمة. وحتى نصل لهذا الفهم، يتعين أن نحج ونحن مستحضرين المعنى الحقيقي للحج.
* نقلا عن "الاتحاد"

حول الموقع

سام برس