بقلم/ هند أبو سليم
النسيان.. إنه النعمة النقمة.. مالك الأمرين.. أول البدايات وآخر النهايات.

دوما ما نشكو من أننا نسينا القيام بهذا أو ذاك، وأين وضعنا هذه أو تلك.. وكيف نسينا أوجه وأسماء.. أو ذكريات يحكيها الأصدقاء.. أو حين ندندن أغنية قديمة كنا نحفظها و لا نذكر حروف كلماتها الآن.

وكيف ننسى القيام بمهام وأشياء معينة.. وكيف نؤكد على أنفسنا أننا سنهاتف أحدهم... ثم يمر اليوم ولا نهاتفهم.

وكيف نظل نبحث عن النظارة لساعات لنجدها إما على رؤوسنا أو معلقة فى سلسلتها حول عنقنا.

وكيف حين نخبئ شيئاً مهماً أو عزيزاً.. وننسى لشهور أو أعوام أين خبأناه.

وكيف حين يظل الأهل يعيدوا مراراً وتكراراً على مسامعنا شيئاً ما يجب علينا تذكره..... وننساه.

وكيف حين نظل نعيد مراراً وتكراراً على مسامع أبنائنا شيئاً ما يجب عليهم تذكره..... وينسوه.

هذا اللص الخفى.. الذى يسرق منا أموراً نظنها مهمة ومصيرية ... ليجلس متسلياً على جنوننا فى البحث أو صدمتنا حين نتذكر ما انسانا اياه..... أموراً بعد أن نكبر ونتذكرها لا يكون رد فعلنا أبعد من اثنين: إما الضحك أو - إيه التفاهة اللى كنا فيها دى -

لقد علم النسيان منذ أن خلق أن ما هو مهم الآن .... هو عدمٌ بعد قليل... لا يهم فى شىء.... فقرر أن يلعب لعبته علينا.... و أن نكون عرائساً فى مسرحه الخاص....



ولكن!

ككل ما خلق عز وجل للنسيان وجه آخر.... وجهاً أذاقنا العذاب والآلم.... وجهاً يتلذذ على دموعنا وآلامنا وانكساراتنا وأوجاعنا وتقلبنا الليل أرقين.... وانسحابنا من العالم وجعاً...

وجهاً قاسياً.... كيف؟

النسيان لا يحضر عند الطلب... وجد فى الخليقة بطريق ذى اتجاه واحد.... هو يأتى وقت يشاء ...لا نستطيع الذهاب إليه.... لا نستطيع إحضاره بضغطة زر.... بل كلما طالبناه بالحضور كلما تعنت.... وأغلق كل أبواب الرجا.... وأغلق كل التكنولوجيا الخفية للتواصل معه.... يرفض رفضاً قاطعاً أن يأتى ليرحمنا من عذاباتنا.... هو هناك يرانا نتقطع وجعاً... مستمتعاً.

فها هى ذات الستة عشرة ربيعاً تتوسل لله أن تنسى أول الجروح - وليس آخرها - فدائماً أول الآلام أصعبها.

وها هى أم الهلال الثكلى تعرف أن ابنها لن يعود فتترجى النسيان أن تنسى إنه رحل...

وها هو العاشق الولهان يترجى النسيان أن يأتيه لينسى الخيانة و لا يرى صورها أمامه فى كل لحظه....

وها هو الصديق الصدوق يناجى النسيان ليساعده فى تخطى اختيار صديق خاطئ ظنه صديق عُمْر ولكنه ترك غدراً و رحل.

وها هى العشرينية الجميلة تطالب النسيان بالحضور على وجه السرعة لتنسى حبيباً كان أملا و مستقبلاً و أباً لأولادها في أحلامها .... و لكن الظروف.

وها هو الأربعيني يجلس في مكتبه متكئاً يراسل النسيان مراراً و تكراراً عله يرحمه مِن مَن أتت بعد أربعين عاماً لتعطيه كل ما تمنى و أراد .... و لكن الزوجة و الابناء.

وها هو راقداً في فراشه ناظراً الى السقف يرجو نسيان من التقاها لأنها كالمغناطيس.... و لأنه يرفض كل اختلافها عن عاداته و تقاليده و مبادئه.

وها هم الأبناء يناجون النسيان عله يرفق بهم و يأتي سريعاً .... ليتعلموا معنى العيش من غير أمٍ أو أب.

قيل كثيراً أن النسيان دواء...... ولكن الحقيقة أن النسيان لا يحضر في وقت المرض..... لا يحضر عند الحاجة..... يأتي لاحقاً بعد أن نكون قد تجرعنا كل ألوان التعب..... يأتي متأخراً متعمداً.... يأتي حين نكون تخطينا كل شيء وحدنا... دون

ما الحل؟

الغريب أننا جميعا سنعرف الحل، لكن متأخرين.... بعد أن نستهلك أعوام في مناوشات و جدالات و حروب بيننا و بين الملعون النسيان.

وحدهم كبارنا - و غداً نحن- علموا بأن النسيان ليس دواء..... بل علينا ألا ننسى..... اذ قرأت مرة أن شيخاً نصح احدهم ألا ينسى.... فليعش حلو الذكرى و مرها فهي جزء من كيانه و تكوينه.... إنها عامل من عوامل تشكيله.... إنها حجر من حجارة اساس شخصيته.

علينا أن نحارب النسيان بأن نعيش ألمنا..... نعطيه حقه من الوقت..... نتعايش معه.... حتى يصبح رفيقاً لا يؤلم.... حتى نضعه فى مكانٍ نقرره نحن، لا نجبر عليه....

علينا أن لا نبحث عن النسيان.... فكل شىء - كوووووول شيييييىء- نمر به فى حياتنا به الحلو و به المر..... فلنتذكر حلوه بابتسامه و نقبل الألم كجزء من وجودنا فى الدنيا.... فالآلوان لا تكتمل دون اللون الأسود


إذن عزيزى النسيان:

كتر خيرك...... تستطيع القدوم وقتما تشاء..... فنحن لن نبحث عنك.

ليس مسمارا على جدار ، تعلق فوقه لافتات الحب و تنتزعها حين يحلو لك ! ... يا صديقي الذاكرة بالذاكرة ،، و النسيان بالنسيان و البادىء اظلم. - احلام مستغانمي

نقلاً عن اليوم السابع

حول الموقع

سام برس