عبدالحليم سيف

ما هي النُخبة ؟
هي .. ببساطة مجموعة من العناصر البشرية، توفر لها قدراً من المعارف السياسية والثقافية، وتتواجد في حزب ومنظمة ومؤسسة ودولة، تتنافس ديمقراطيا في الانتخابات على السلطة ، وتتولى اتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بوطنها؛ تنشط في كل مفاصل المجتمع، تتحسس أوجاعه وتتلمس همومه.. وتقترب من أحلامه وتطلعاته؛ ثم تتبنى قضاياه العامة والخاصة وتعمل على تحقيقها .
في المقابل ، فإن النخبة الحقيقية هي -أيضاً- من تضع في صدارة أجندتها المرحلية وأهدافها الاستراتيجية وبرامجها الآنية ؛ بما يتوافق ومنظومة قيم المجتمع وقواسمه المشتركة في الأمن والغذاء والسكن والاقتصاد والسياسة ؛ بما في ذلك احترام التعدد الثقافي والاجتماعي؛ وتقديس احترام حرية الرأي والتعبير والمعتقد وحق اختياره لنظام الحكم ومن ؟.. وكيف يَحكٌم ؟.. دون فرض أو وصاية ؛ مع الالتزام الصارم بالدستور والقوانين المنظمة لشؤون الحياة في شتى الميادين والحقول .
واستطراداً في القول.. أن النُخب السياسية والاجتماعية ؛ تختلف في مرحلة ما .. كما تتعدد رؤاها حيال حوار ما .. وصراع النخب هنا يقوم على أسس وطنية بحتة.. وليس على روافع عصبوية وطائفية ومذهبية وحزبية .. ولا تسندها دوافع ذاتية أياً ما كانت قبلية ..عنصرية .. جهوية أم مناطقية ،وغاية هذه النُخب حرصها على أن تحظى بالقبول الشعبي.. والثقة العمياء ؛ لاسيما وهي تجسد بسلوكها اليومي التقاليد العريقة للمجتمع ولديها الوعي الكافي بمسؤولياتها ؛ بما يحمله ذلك من قواعد الإخلاص والتفاني والنزاهة والاستقامة والانضباط والالتزام والانتماء وحساب الضمير ؛ قبل حساب الشعب والعدالة.
أسوق هذه المقدمة وأنا بصدد الكتابة حول موضوع مسكوت عنه ، واعتقد انه يستحق المناقشة الواسعة ؛ وأعني به " النُخب في اليمن وغياب القيم ".. وأنا أصل إلى هذه النقطة ..إذ بالسؤال البسيط يقفز إلى الخاطر: وهل لدينا في اليمن " نُخب " أصلا ً ؟!
قد يكون من الصعب الجزم بالنفي .. ويمكن ، لمن يفتش عنها سيجدها في الماضي غير البعيد ؛ كان لدينا نُخب مرموقة عُدت من ألمع وأنبل من أنجبتها اليمن في القرن العشرين.. من سياسيين وأدباء ومفكرين وشعراء وعلماء ونقابيين وفنانين ورجال أعمال ،،ونحوهم من الشرائح الاجتماعية ، كان بريقها المعنوي في حياة الشعب ساطعاً بقيمها .. مثل التضحية وطهارة اليد وأمانة المسؤولية ، وبالأفكار الوطنية والجميلة التي تشعر الإنسان بإنسانيته والمواطن بيمنيته ..فلم يكن "الانتماء" لدى تلك النخب مجرد شعارات تلوكها الألسن ؛ وأناشيد وطنية فارغة من أي معنى تردد بالمناسبات ؛ بل كان لديها إحساس رائع ؛ يترجم واقعا في سلوكيات أكثر عطاء وإيثارا وشعورا بجسامة المهمة ،والتزاما بقضايا الوطن وتطلعات الجماهير ..ويحدثنا التاريخ عن مآثر تلك النخب عند المحن والشدائد ..حين تنكرت لذاتها وقدمت التضحيات وجادت بما تملك من مال وجهد عن طيب خاطر ،حملت رؤوسها على الكف دفاعا عن تحرير الشعب من نير الإمامة والاستعمار.
تجلى ذلك في لقاء طلائع الحركة الوطنية اليمنية منذ ظهورها في عدن في ثلاثينيات القرن المنصرم ؛ ومن ابرز تلك الرموز التي ما تزال أسماؤها ترن في الأذان الأساتذة الأفاضل رحمهم الله : محمد علي لقمان المحامي . عبد الله علي الحكيمي ، احمد محمد نعمان ، محمد محمود الزبيري ، محمد عبده غانم ، مطيع دماج ، احمد عبده ناشر العريقي ، محمد علي باشراحيل ، عبد العزيز الحروي ،عبد القادر احمد علوان، عبدالله عبد الوهاب نعمان عبد الله عبد الرزاق باذيب ؛وآخرون مهدوا بصحفهم ونشاطهم للثورة .
وجاء جيل آخر فحمل الراية وفجر ثورة 26 سبتمبر في الشمال وثورة 14 أكتوبر في الجنوب، وعلى منوال أسلافهم وعندما شعروا بأن الوطن في خطر ، نجد قادة الأحزاب والمنظمات والنقابات والأدباء على اختلاف مشاربهم السياسية والاجتماعية تنادوا للدفاع عن العاصمة صنعاء في 67 ،فسطروا ملحمة السبعين يوماً وحققوا النصر مع الشعب ، لأن تلك النُخب وضعت مصلحة الوطن فوق توجهاتها السياسة. وصحيح أنها ارتكبت من الأخطاء .. حين تصارعت فيما بينها ، إلاَّ أن اليمن كان حاضراً وبقوة في قلبها وعقلها ووجدانها ؛ فالوطن كان يعني لها الحياة والمحبة والتسامح والأمل والخير والحرية والسلام والعيش المشترك . وكانت هذه القيم تحمي مجموعة أساسيات تتمثل على الأقل في احترام الذات والفكر ودرجة الثقافة ؛ وهي منظومة كان ينبغي أن تصبح قواعد ملزمة في ظل مناخ عام يحميها ويحرص عليها ويضع لها من ضمانات الحماية والبقاء ؛ مما يجعلها دستورا وسلوكا مجتمع لو أخذنا بالقليل منها لما بلغنا اليوم حد الكارثة.
ثم ماذا حدث؟؟
جرت أشياء كثيرة .. تغيرت أنظمة .. أجيال كبرت .. وأخرى تناسلت .. مات من مات ..وقتل من قتل .. واستشهد من استشهد .. ومع ذلك تبدلت النفوس واختلطت الأوراق واندثرت قيم وظهرت جديدة .. فاختل التوازن .. وولدت من أحشاء الواقع فئات طفيلية .. لنصبح اليوم أمام خارطة لثلاث نُخب، ولربما من العسير تفصيل عناصرها جميعها ..لكن ليس بمقدور أيا منا نكران دورها والفاعلين فيها ..وأتصورها على النحو التالي :
"النُخبة الأولى".. قد تكون ولدت نتيجة لحظة عاطفية أو سياسية فرضت على الناس في مرحلة مضطربة وقاسية ..؛أو أن أنها ظهرت بسبب اختيارات آملتها رغبة في التغيير إلى الأفضل لتحقيق أهداف مشروعة في حياة الشعب..فشيئا فشيئا كبر جسم هذه "النُخبة " ؛ بشكل مشوه ؛ وأصبح لها أكثر من رأس وذراع ؛ يجمعها كبار السياسيين والعسكريين ورجال المال والأعمال ووزراء ونواب ومحافظين وسفراء ومشايخ وقادة أحزاب وجماعات ومليشيات مسلحة وتجار سلاح ومخدرات ؛ هؤلاء تمكنوا في غفلة من الزمن السيطرة على كل مفاصل الدولة..عبر زواج غير شرعي بين "السلطة والثروة " .. فأصبحوا بين عشية وضحاها يملكون المال والقوة والإعلام ..لا بل والتحكم بالقرار والتلاعب بمصالح الشعب.
وأمام شراهة منظومة فساد هذه النخبة ؛ أمسى في عرفها كل شيء مباحا.. فلا فرق لديها بين الوصول على جثث الأبرياء من الأطفال والشباب وبسطاء الناس والوصول على أجنحة السلطة بالطرق السلمية والديمقراطية.
أما " النُخبة الثانية "، فتتمثل بكبار الموظفين والإداريين وتجار وسيدات أعمال وأعضاء أحزاب وناشطين حقوقيين وملاك منظمات مجتمع مدني وكتاب وعلماء دين وإعلاميين وأساتذة جامعات ومعاهد خاصة وحكومية .. وأعمار هذه النخبة تتراوح ما بين الخامسة والعشرين والسبعين "بدرجة أقل " .. وكانت ثمرة غير ناضجة أفرزتها سنوات العفن والفساد التي سادت حياتنا في العقدين الأخيرين .. واستشرت بصورة طافحة منذ أعوام ثلاثة.
ممثلو هذه" النُخبة " ينتشرون في منظمات المجتمع المدني والمنتديات والمراكز والأحزاب ووسائل الإعلام والجامعات والمعاهد والمدارس والوزارات والفنادق والمقايل الخاصة.. وبدلاً من أن تكون عناصر هذه النُخبة ؛ هي الأكثر تأثيرا والأرفع صوتا في شرايين المجتمع للدفاع عن المصلحة العامة ..تجد بعضها مصابة بفيروس الانتهازية واللصوصية والوعي المغشوش ..زاد من جشع قلة منها ارتباطها بحبل سري تغذيها روافد "النخبة الأولى "..ولهذا تلاحظ بسهولة أن هناك من بات "مقرراً" على الشعب.. ينتقل بين ندوة ومؤتمر .. وقناة فضائية وموقع إخباري .. يروج لأفعال أصحاب النفوذ.. ويحرض بين الأخوة .. وحتى بين " الحمار وحسوكه " (!).
وهناك " نُخبة ثالثة " هي الأكبر ..تمثل شريحة طويلة من شرائح المجتمع وتمتد لأجيال متعاقبة .. تمثل مختلف التخصصات العلمية والثقافية من أطباء ومهندسين وصحافيين ومحامين وفنانين ومثقفين وشعراء ومدرسين وأساتذة جامعات وباحثين وعسكريين وموظفين وإداريين .. هؤلاء يتواجدون في المجتمع يعيشيون بين الناس .. ننتقدهم لسلبياتهم أحيانا ولسكوتهم في أحايين أخرى .. بعضهم يتألم ويرثي بما حل بالبلد والبعض يوجه سهام الإدانة للنُخبة الأولى ولكن في الغرف المغلقة.
وبين هذه النُخبة من ينتظر الحل من الخارج ويراهن على المجتمع الدولي ومنهم من يملا المقايل والمجالس ضجيجاً ويضع حلولاً لكل أزمات اليمن ثم تراه في كل جلسة ينهي حديثه بالسؤال المخيف: إلى أين تمضي اليمن ؟!! ،
المحصلة أننا أفقنا ذات صباح شديد البرودة في شباط 2011م، على هدير هتافات الشباب وزئيرهم يطالبون بالثورة على ركام الماضي .. بحث الشباب عن حزب ليبرالي يقود الجماهير فلم يجدوا إلاَّ بقايا أحزاب كسيحة مغتربة عن الواقع .. التفتوا إلى نُخبة من قيادات وفعاليات فصدموا بنماذج عرجاء ومشوهة كانت وما زالت جزءاً من صناعة الأزمات .. فلا وجود اليوم لنُخبة يُركن عليها ولا أحزاب يرجى منها .. ويبقى أمام الجميع طريقاً واحداً لانبعاث اليمن من جديد والخروج من حالة الانقسام والتيه والضياع وهو العودة إلى منظومة القيم الأصيلة .
وتكفي الإشارة هنا ؛ إلى أن إحياء تلكم القيم ، لا تحقق بمقالة أو ندوة .. فهذا يحتاج إلى حملة توعوية مكثفة وموسعة تبدأ من المدارس والجامعات والمنظمات والأحزاب ومرافق العمل والإعلام والصحافة والمساجد وهذا هو التحدي الحقيقي.
إذا لم تغيرنا القيم .. فعلى الدنيا السلام !!


Ahalim_227@yahoo.com

حول الموقع

سام برس