عبير ياسين

على الرغم من تعدد المشاكل المحيطة بنا في العالم بصفة عامة وفي المنطقة العربية بصفة خاصة، فإن بعض تلك الوقائع تفرض الخروج عنها إلى ما يمكن أن يفسرها بصور أخرى.. ففيلم أو أغنية يمكن في أحيان كثيرة ان تتلامس مع الكثير من المشاكل العامة، كما تتجاوز في بعض الأحيان الحدث المباشر والحدود المعنية وتكون قابلة للنقاش بشكل أكثر عمقا.
يقودني إلى طرح تلك النقطة فيلم تم وضعه على صفحة من صفحات الفيسبوك منذ فترة بعنوان «التوازن»، ورغم أن الفيلم قديم فقد جذب اهتمامي التعليق الذي رافق الفيلم على وسائل التواصل الاجتماعى، حيث تم الإشارة في العنوان والتعليق المرفق إلى قدرة الفيلم على التعبير عن الصراع الدائر في مصر بعد الثورة. ومن الطبيعى للمهتم بالشأن المصري أن يجذبه العنوان كما يحدث عادة مع العناوين اللافتة التي قد تكون مرتبطة بموضوعها أو لا تكون، ولكن هذا الفيلم رغم قدمه تجاوز بالنسبة لي مصر بمراحل. فشخصيات الفيلم التي تقف على الحافة في الأحداث أشبه بالبشر أنفسهم في حياتهم، وقدرتهم على تجاوز الخط الفاصل بين الانسانية وعدمها، وبين صوت الضمير وصمت غيابه أو ضجيج موته، فالأزمة في الفيلم ترتبط بأزمة من أزمات العالم والانسان.
والفيلم الماني، تم تنفيذه من قبل شقيقين تؤامين هما كريستوف وولفغانغ لاونستن عام 1989، وقد فاز في مسابقة أوسكار عام 1990 كأحسن فيلم كرتون قصير. ولا أستطيع إنكار الحالة النفسية المختلطة التي أنتجها الفيلم ومشاهدته على خلفية الأحداث في مصر رغم مدته القصيرة 7 دقائق. فالفيلم يتجاوز ما يحدث في مصر وأن كان بإمكانه أن يعبر عن جزء من فكرة الصراع والطمع، ويطرح تساؤلاته حول الانسان نفسه وأنانيته حيث تدور الحياة كمعركة صفرية لابد أن يخسر فيها أحد ليشعر الآخر بأنه قد انتصر أو حقق مكسبا ما، على الرغم من أن الحساب الحقيقي يؤكد أن الخسارة جماعية، إن لم يكن على المدى القصير والمتوسط فعلى المدى الطويل، وان صدق هذا في الفيلم أو التعاملات الانسانية المباشرة، فإنه وارد وبقوة في ما يخص المجتمعات والدول.
يدور الفيلم حول مجموعة من الأفراد (5 رجال) يتشابهون في كل الأشياء، ويوجدون كما يمكن أن ندرك على مساحة مسطحة تبدو وكأنها معلقة في اللاشيء أو في الفضاء. ومن أجل الحفاظ على الحياة لابد من تحقيق التوازن حتى لا يسقط الجميع عن السطح وتنتهى حياتهم. تبدو الفكرة واضحة من خلال الحركة المحسوبة للشخصيات، فكل شخصية تتحرك بشكل محدد، وكلما تحرك فرد لعدة خطوات في اتجاه سارع شخص آخر للحركة في اتجاه آخر يحقق التوازن ويحفظ وجود الجميع. يتجه كل فرد إلى حافة ما ويبدأ في إخراج صنارة والصيد في اللاشيء المحيط بالمسطح، وبعد لحظات يميل المسطح بهم نتيجة لاصطياد صنارة شخص منهم لشيء لا نعرفه بالطبع، في تلك المرحلة يسارع الجميع للتحرك في الاتجاه المعاكس للحفاظ على التوازن، وهو ما يمكن الصياد من إخراج صيده الثمين الذي يبدو كصندوق قديم نكتشف مع الوقت أنه صندوق موسيقى.
الصندوق هنا يشبه اي شيء في الحياة يمكن ان يتصارع عليه البشر، وكأي شيء يثير فضولهم لأنه غير معروف لهم. ولكن في معناه كصندوق موسيقى وليس أي شيء آخر له قيمة لا يمكن إغفالها. فنحن أمام شيء مادي ولكن منتجه معنوي يمكن اقتسامه من دون أن يقل، فالجميع يمكن أن يستمتع بالموسيقى من دون أن يحتاج لنبذ الآخرين أو استبعادهم. اختيار الموسيقى في الفيلم يختلف عن كونها ثروة مادية واضحة أو كرسي حكم، على الرغم من أن قيمة أي ثروة في المشهد الذي نراه في الفيلم لا تعني أي شيء لناس لا تملك إلا الحركة المتوازنة للحفاظ على الحياة.
يتحول صندوق الموسيقى إلى صندوق باندورا لا يخرج الشر، ولكنه يخرج الشر الموجود بالفعل في البشر حوله، وكأنه يعبر عن الثورة نفسها وما أحدثته في المشهد المصري، وان كان لهذا نقاش آخر. تحرك كل شخص بطريقة تجعل الصندوق يميل نحوه وتجبر الآخرين على الابتعاد ومحاولة الحفاظ على التوازن. وفي النهاية نصل للنتيجة الحتمية، فإما أن يبقى فرد منهم والصــــندوق، أو أن ينتهي الجميع، وفي تلك الحالة لن يهم أن ظل الصندوق محتفظا بتوازنه على المسطح أو سقط معهم. بالطبع يمكنك المشاهدة لمعرفة كيف صارت الأحداث، ولكن يظـــل السؤال هل هو تفسير لما يحدث في مصر؟ أليس الصراع جزءا من طبيعة الحياة وجزءا من طبيعة السياسة والسلطة؟ وما الذي يصل بالناس إلى حافة النهايـــة الجماعية؟ هل هي محاولة انتحار جماعي كما يرى البعض؟ أم حرمان جماعي أو شبه جماعي من السلطة يقود لمعركة انتحارية الطابع لطبعها الصفري؟ هل هي محاولة للعودة للتوازن المعتاد السابق على ظهور الصندوق في المشهد، أم مباراة صفرية لا تهم أحدا.

٭ كاتبة مصرية

حول الموقع

سام برس