علي ناجي الرعوي
الصراع السياسي في اليمن ليس كغيره من الصراعات التي تفجرت في دول "الربيع العربي" كما انه الذي لا يشبه أي صراع آخر في بقية البلدان, لا من حيث التشابك والتداخل اللذين يتصف بهما ولا من حيث العقل الأيديولوجي الذي يحركه ولا من حيث الانقسامات والصراعات التي تسيطر عليه ولا من حيث البراكين والحمم التي يلقي بها على الواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ولا من حيث الأسباب والموقف منه .

فالصراع السياسي في اليمن والذي ظهر اكثر حدة مع جائحة عاصفة الربيع العربي مطلع عام 2011م على شكل أزمة سياسية بين فريقين يتصارعان على السلطة لم يعد حالة استثنائية وإنما بات هو القاعدة, فهو من يمارس لذاته ويمارس في الحرب المحتدمة على غنائم الحكم .

كما أن الموقف العام في اليمن من هذا الصراع يختلف عن غيره في سائر المجتمعات, فالنخب المتصارعة هنا تتوزع في ثلاثة خنادق: خندق يغذي الصراع من اجل الاستفراد بالسلطة وخندق يوظف الصراع لإزاحة وإقصاء الآخر والإحلال مكانه, وثالث ينفخ في كير الصراع بهدف الحفاظ على مصالحه الذاتية والتي لا تتحقق إلا في ظل الأزمات واشتعال الحرائق.

وتحت تأثير هذا الصراع الجهنمي فقد تخلى اليمن عن ميزة التوافق الشجاعة التي جرى التوقيع عليها في 23 نوفمبر عام 2011م والتي بموجبها انتقلت السلطة سلمياً من الرئيس السابق إلى الرئيس الحالي ومعه حكومة الوفاق الوطني وتهيأت الأجواء أمام إجراء حوار وطني شامل حول مختلف قضايا اليمن الأساسية والتوصل إلى وثيقة تاريخية في 25 يناير الماضي عوّل عليها الكثير التأسيس لمرحلة قادمة تضع اليمن على طريق البناء والسلام والاستقرار لكن كما يقول العرب: "ليس كل ما يتمناه المرء يدركه** تجري الرياح بما لا تشتهي السفن".

فقد تقاذفت سفينتنا خلال السنوات الثلاث الماضية صراعات السياسيين وأخطاء الحكومة التي فشلت في إدارة المرحلة الانتقالية وفشلت أيضاً في مواجهة هذه الحقيقة حتى وهي من لا تجهل انه وفي عهدها غابت الدولة كلياً على صعيد الأمن والاقتصاد والإدارة وحل التخبط والارتجال والعجز وارتفع منسوب الأزمات بشكل غير مسبوق وهي أزمات لم تنشأ أبداً من فراغ بقدر ما كان لها أسبابها ومسبباتها وقد تعددت هذه الأسباب في ظل فشل هذه الحكومة بين ما هو داخلي وما هو خارجي لتشكل في النهاية المأزق الراهن الذي يقضّ مضاجع الجميع بما فيهم أولئك الذين ظلوا يدافعون عن إخفاقات تلك الحكومة ويصرون على استمرارها.

ليس جديداً القول إن حكومة الوفاق هي من أسوأ الحكومات التي عرفتها اليمن على الإطلاق, لكن فما نعيشه اليوم من فوضى وفتن ومنحدر خطير وان كانت هذه الحكومة هي السبب في التدهور الاقتصادي الحاصل وهي من عمدت إلى معالجة هذا التدهور من خلال قرار تحرير المشتقات النفطية الذي دفع بجماعة أنصار الله الحوثية إلى امتطاء عاطفة الناس والاعتصام على أبواب العاصمة ومداخلها والتظاهر من اجل إجبارها على التراجع عن ذلك القرار مع ذلك فان القوى السياسية التي ظلت تعمل على إذكاء الأزمات كانت هي وراء معظم النكسات التي أحاقت بالبلاد خلال الفترة الماضية وهي من تتحمل المسئولية الأخلاقية والوطنية إزاء تعثر عملية الانتقال السياسي والإخفاقات التي تعرضت لها مسارات التسوية السياسية واستشراء عوامل الفوضى وتآكل هيبة الدولة والتي أصبحت في نظر العالم دولة فاشلة أو في طريقها إلى الفشل.

والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم بإلحاح: ماذا بقي من الحكمة اليمانية وقد تحولت البلاد إلى ساحة مفتوحة تضج بكل الأصوات من اقصى التعقل إلى اقصى التطرف في حالة هستيرية نجد فيها الكل يخوض حرباً ضد الكل والكل يلوم الكل وكأن اليمنيين يكررون مأساة أجدادهم في غابر العصور حينما أضاعوا الحكمة وانساقوا وراء أهوائهم فحلّ عليهم غضب الله بان أهلك زرعهم وحول جنتهم إلى حطام وبدلاً من أن يعودوا إلى الرشد لجأوا إلى التلاوم وتحميل كل منهم الآخر المسؤولية عن الكارثة التي ألمت بهم كما روى القرآن الكريم وربما تصبح قصة اليمنيين مع عملية الانتقال إلى الوضع الدائم والمستقر هي أقرب بالشبه إلى أسطورة "سيزيف "الذي عاقبته" الآلهة" بعذاب قائم على دفع صخرة كبيرة من اسفل جبل إلى أعلاه إلا انه كلما بلغ القمة تدحرجت تلك الصخرة إلى اسفل ليعاود العمل من جديد.

لقد توفرت أمام اليمنيين الكثير من الفرص لتجاوز أخطاء الماضي والخروج من المأزق الراهن إلا انهم من ظلوا يعيدون إنتاج أخطائهم على نحو معيب ومخجل, الأمر الذي ضاعف من أوجاع الناس ووضع البلاد على حافة الانهيار والإفلاس, حيث مضت الفترة الانتقالية المنصوص عليها في المبادرة الخليجية والمقدر حملها وفصالها بسنتين دون إنجاز أي شيء من استحقاقاتها ليتم الانتقال إلى الفترة الثانية من المرحلة الانتقالية والتي توشك هي الأخرى على الانتهاء دون استكمال أي من الاستحقاقات السابقة أو اللاحقة المنصوص عليها في مخرجات مؤتمر الحوار.

وبعد ثلاث سنوات من الانتظار والانتقال إلى الوضع الدائم, ها هم الغالبية من الناس يتساءلون عن العوامل والأسباب التي كانت وراء تعثر هذا الانتقال؟ وإلى متى يمكن أن يستمر؟ وهل من الواقعية أن تظل البلاد تغوص في مرحلة انتقالية لا يحكمها زمن محدد ولا قواعد ثابتة؟ وهل يكفي أن تواجه الأزمة المركبة التي تلقي بظلالها الكئيبة على البلاد بتغيير شخوص الحكومة وإشراك مكونات جديدة في الحكومة القادمة التي سيجري تسمية رئيسها خلال هذا الأسبوع؟ وماذا يُنتظر من حكومة سيطغى عليها منطق التحاصص وتكرار تجربة الحكومة السابقة التي انتقلت إلى داخلها خلافات الفرقاء وصراعاتهم السياسية؟ وهل قدرنا أن نعود لنفس الدوامة التي جرتنا من فشل إلى فشل ومن أزمة يتلوها أزمة وكأنه لا يكفي هذا الشعب ما أصابه من ويلات التقاسم والمحاصصة والصفقات الثنائية التي لم تنتج إلا مزيداً من التدهور والانفلات والتدمير والخراب .

لقد شعرت بأنفاسي تنحبس وأنا أُطالع ما أعلنته منظمة الأمم المتحدة عن 14 مليون يمني تحت خط الفقر وان نسبة الأمية في اليمن وصلت إلى 52% وان الفساد السنوي في اليمن يقدر بخمسة مليارات دولار وان الحروب والنزاعات في مناطق مختلفة في البلاد قد شردت عشرات الآلاف خارج مساكنهم وبالتالي فلا أجد منطقاً يبرر الصراع على حكم شعب غالبية سكانه تعاني الفاقة والفقر والأمية والجهل والتشرد.

واكثر ما يحيرني وسط هذا الكم الهائل من الإحباط, أن يضيع اليمن كلياً تحت إيقاع الصراعات السياسية والحزبية والعصبيات الجهوية والمذهبية وان تتحول المرحلة الانتقالية إلى مجرد حفلة تنكرية فاشلة يقهقه فيها الشيطان ملء شدقيه وهو يرى الأيادي العابثة تتعارك على وطن مثقل بالتحديات والمعضلات والمشكلات العميقة والمزمنة.

اخبار اليوم

حول الموقع

سام برس