بقلم جميل مفرح
من المتأخر والفائض جداً أن نتحدث في الوقت الراهن عن حسنات وإيجابيات الاختلاف وإيجابيات التنوع والتعدد، ولكن ليس من المعيب أن نذكر بذلك كلما ألحت الحاجة إلى التذكير.
وفي الحال الذي يعيشه الوطن اليوم ويعايشه أبناء الوطن وكلهم قلوب بل قلب واحد يرتجف خوفاً على الوطن ومصيره في أتون هذه الاقتتالات السياسية المحتدمة، يطيب للمهتم أن يذكر بالاختلاف وطبائعه وخلائقه كما يجب أن تكون.. ولكن الحديث أو التذكير هنا عن الاختلاف وفي هذه الظروف يجب أن يكون مختلفاً وخارجاً عن نسقه المعتاد أو المتعارف عليه، لأنه سيكون حديثاً عن الاختلاف في منحنيات ومراتب أثره وجدواه، وقد يكون حديثاً ناقداً أكثر منه مادحاً ومشيداً ومفتشاً عن مناقب وصفات حميدة، أو شعارات وخطابات رنانة مزايدة!!

والذي أذهب إلى معناه وأريد التوقف عنده وتناوله هنا هو الاختلاف حين يصل إلى درجة العدمية والهدم، أي أن نختلف فقط لكي نختلف أو لكي تخالف، أو أن نختلف لنقوض الواقع بدلاً من أن نحاول بناءه وتشييد أركانه على أسس صحيحة تضمن لنا غده أكثر من ضمانة لحظته الراهنة، أو أن تضمن لنا هذه اللحظة بناءً على واقع لا تغيب عن حساباته كل احتمالات الغد القادم، وتؤسس له بمطلق الحرص والحذر من كل المتغيرات الراهنة والمتوقعة.. إن الحديث عن الاختلاف ذو شجون وشئون، ويعتمد على مستوى المسئولية والجدية في التعامل سواء مع الواقع أو مع بعضنا بيننا البين كبشر مسئولين لنا فاعليتنا المؤثرة في البناء والهدم والتسيير والتغيير.

إنه ليسوؤنا وليحزننا أن نجد أنفسنا نتعامل مع معنى وقيمة الاختلاف على كونها الخلاف المطلق وتقويض وهدم الآخر أياً كان ذلك الآخر، وحتى وإن كان صواباً أو حقيقياً، وأن نكفر بالحقائق، فقط لأن ذلك الآخر سبقنا إلى الإيمان بها وتبنيها في مشروع اختلافه وخلافه معنا!! ذلك بالطبع يتحول بقيمة الاختلاف تحولاً عكسياً من الإيجاب إلى السلب، ويحولنا من مختلفين إلى مخالفين ومن شركاء إلى أعداء ومن أدوات وأسباب بناء وتشييد إلى معاول وعوامل هدم وتقويض معتدية على الطبيعة المفترضة القائمة في الأصل على حقيقة البناء والنماء للوجود البشري.. وبالتالي نتحول إلى مجرد أفكار تقويضية موجهة أو مسيرة لمشاريع هدامة كبيرة قد لا نستطيع أن ندرك من يقف وراءها، ولكننا نشعر بكل حواسنا ما تفعله فينا من هدم وتمزيق وإماتة تحت شعارات ولافتات لا تكاد تعني وجودنا الذي هو في غاية الغنى عنها!!
نعم محزن ومؤلم أن نختلف حتى في بنى تكويننا ووجودنا، وألا ندرك أن للاختلاف حدوداً فاصلة قاطعة بينه وبين الخلاف، وبينه وبين القيم والمعاني الكبرى التي لا تحتمل الاختلاف والخلاف.. ففي الوجود الكثير والكثير مما لا يحتمل الاختلاف والخلاف.. غير أننا نتظاهر بأننا لا ندرك ذلك أو نحاول أن نتغابى ونتظاهر بافتقاد الحواس جملة كلما مررنا به أو بالأصح مر بنا على اعتبار أننا في لحظتنا الراهنة نكاد نميل إلى كوننا جماداً أو آلات أكثر من كوننا مركز تحكم وإدارة للواقع من حولنا.. وهذا أسوأ مستويات الفاعلية والتأثر لدى الإنسان بالواقع والحياة من حوله!!

أود الإشارة إلى أن الحياة تفاجئنا كل يوم, بل كل لحظة بما لم يكن في الحسبان وتفرضه كواقع لا نجد إلا أن نتعامل معه بحالته المفروضة لا المفترضة.. وما يحدث في الوطن من فرض لواقع الاختلاف والخلاف مبعث للحزن الشديد والخوف الأكثر شدة من مسارات المتغير الصعب الذي نعيشه.. وأن درجات الخلاف والاختلاف التي وصلنا إليها تقرص آذاننا لكي نستيقظ من هذه الغيبوبة الممعنة التي تقودنا إلى مجاهل مرعبة.. لقد بتنا نختلف حتى في قيم ومعان لم يكن الاختلاف والخلاف فيها واردا ولم يكن له من مكان!! فها نحن نتعامل مع أفكار وقيم الوطنية والوفاء والبناء والولاء كل حسب نظرته أو نظرة التوجه الذي ينتمي إليه دون إعمال حقيقي للفكر والعقل، وهذا هو ما يخيف حد الرعب من كل متغير.

أخيراً أن نختلف حتى في التعامل مع مناسباتنا الوطنية والقيم والأفكار التي تربينا ونشأنا عليها كقيم سامية للوطنية والوفاء والولاء وأن نتعامل معها من منطلقات فئوية وعنصرية تشتتية، فذلك هو مبعث الخوف والرعب على الوطن من كل شيء فيه حتى من نفسه بتنا نخاف على الوطن من نفسه!! يا لها من حالة عدمية تعبر عن لا جدوانا ولا جدوى وجودنا وانتمائنا لهذا الوطن الذي لم يعد يدرك حتى ماهيته جراء ازدحام رأسه بحماقاتنا من جهة وهواجس انتمائنا إليه من جهة أخرى.. إننا نبدو وكأننا لا نستحق أن ننتمي إلى وطن بقدر ما نستحق أن نتحول إلى غبار يلفظه الوطن في إحدى زفرات حزنه وغضبه منا.. لأننا غدونا مجرد أكوام هائلة من الأذى الزائد عن الحاجة!!

نقلا عن الثورة

حول الموقع

سام برس