بروين حبيب
في لبنان يقولون إن الميت لا يرحل وحده، فكلما مات شخص يتساءل الناس «مين رح ياخد معو؟». ويبدوأن هذه الظاهرة «رفاق الموت» لبنانية بامتياز!
لم يرغب جوزيف حرب أن يرحل بدون رفيق فأخذ معه أنسي الحاج في مطلع هذا العام، ونحن على أعتاب نهايته توفي جورج جرداق وأبى أن يذهب وحيدا، فأخذ بيد صباح لترافقه إلى عالم الحياة الأبدية مع المطربة نهوند التي لم يعطها الإعلام حقها مقارنة مع غيرها… وسريعا، الصبوحة التي تعشق الحياة أبت أن يكون الرّحيل بدون رفيق متميز، فأخذت بيد سعيد عقل..
وإن كان البعض يردد عند وفاة كل شخص بمقام هؤلاء أن آخر العمالقة غادر، فإني أرى أن لكل زمن عمالقته، ولا يزال في ثنايا الحياة من نسيناهم وهم بحجم هذه القامات…
الله يطول في أعمارهم بدون ذكر الأسماء، حتى لا يعتبر البعض أني أذكرهم لأن الموت أخطأهم هذه المرة.

لقد كان بودي أن أكتب عن جورج جرداق، عن سنوات الأسى والفقر التي عاشها مسالما وهادئا، حتى أنه أوعز طول عمره إلى نظامه الغذائي الفقير «لبنة وزيتون» على رأيه أو» زعتر وزيت»… لكن غياب الصبوحة كان بمثابة الصفعة الثانية المفاجئة التي جعلتني أرى واقعا صار لصيقا بالفنان العربي، وهو الإهمال التام من طرف الهيئات الرسمية ووزارات الثقافة لأهل الفن والأدب عموما. وإن تردد أن الصبوحة عاشت مدللة أواخر عمرها، لأن الله أرسل لها من يهتم بها لأن يدها السخية ساعدت الكثيرين بدون حساب.

سعيد عقل – مع تفخيم للقبه «عقل» رجاءً – لم يقبل أبدا أن يكون الشّاعر والمثقف «فاتح جمعية خيرية»، فقد كان يعطي حواراته بمبالغ جيدة، لأنه يعتبر آراءه وشعره نتاجا فكريا مثله مثل أي عمل آخر ينجزه شخص ذو اختصاص آخر. رفض رفضا تاما أن تُهان قامته الأدبية، وظلّ متمسكا بهذا المبدأ إلى آخر عمره. بالمقابل منح عددا كبيرا من الجوائز باسمه، لكتاب وشعراء وإعلاميين، كان يأخذ مكافآته بيد ويمنحها باليد الأخرى، بطريقة ما أراد أن يعيد للمثقف والأديب ماء وجهه الذي فقده.
منذ أربع سنوات تحدثت معه عبر الهاتف، تمنيت أن يكون ضيفا في برنامجي «نلتقي مع بروين حبيب»، لكنه كان مريضا، وقال إنه مستعد لاستقبالي في بيته، بما أنه لم يعد قادرا على السفر، لكن للأسف مشروعي وبرنامجي توقفا، لأسباب يطول سردها، وربما ذات يوم سأفرد لها مساحة لأحكيها لكم كقصة، لكن اليوم لي قصة أخرى، قصة الطفلة الصغيرة التي يوصلها والدها إلى المدرسة صباحا، ويدير لها المذياع على صوت فيروز، فيتعلق قلبها الصغير بأغنية « يارا لجدايلها شقر» التي لن تعرف من كتب كلماتها السّاحرة إلاّ حينما تكبر…
تلك الطفلة كانت أنا…
كبرت إذن وتعرفت عليه، وسمعته يقول:
أنا الَّذي قالَ: يا شِعْرُ، ابكهِ وأجِدْ مِن قَبلِ ما كان لا، يا شِعرُ لم تَكُنِ
مِنَ الينابيعِ، من عَينَيَّ صَوتُكَ، مِن ضَوْع البَنَفسجِ، أضلاعٌ له وحِنِي
سِرُّ الرَّنينِ، وهَلْ إلاَّكَ يَفضَحُهُ؟ يا نَاقِرَ العُودِ، منه العُودُ في شَجَنِ!
وغصت في كل ما كتبه، أحببته كثيرا، وأحيانا كنت أندهش من شعوره بالعظمة، ألم يقل إنه «أفضل من المتنبي؟» ثم ألم يقل أيضا «لا أحب أن أفاخر بأنني أحسن شاعر في لبنان» و»أريد أن يتأثر شعراء العالم بشعري». ألم يطلق على بعض الشعراء أوصافا مضحكة نابعة من روحه الخفيفة؟ لعلّه أغضب الكثيرين، لكنه أيضا جعل الكثيرين يبتسمون، يضحكون ويقهقهون حتى الانبطاح أحيانا.

هذا الرجل لم يكن يخاف أحدا، أثملته الحرية، فجرّدته من كل القشور التي يمكن للشاعر أن يحتمي بها إرضاء للآخرين، وحفاظا على شهرته، كان يقول ما يريد ويمضي.
غادرنا عقل بعد قرن وسنتين من الحياة الحافلة بالشعر والمواقف، وترك حقائبه كلها ها هنا، ترك بيته، مكتبته، أوراقه، أقلامه، شعره، أفكاره الجميلة والعصية، حروبا فكرية لم ينطفئ لهيبها إلى اليوم، فبقدر ما كان هادئا، بقدر ما كان حضوره عاصفا، ولعلّ من أغرب ما آمن به إصراره على التعامل باللهجة اللبنانية كلغة أقرب للتعبير عن المواطنة والانتماء للبنان، ولم يمت حتى أصبحت هذه اللغة، لغة الشباب جميعا، التي يطلق عليها اسم «لغة التشات».

بالطبع كان مثيرا للجدل، لكنه عاش حياته واثقا من نفسه، باسقا مثل أرز لبنان، وحافظ على وقاره وعنفوانه، حتى في أعنف الحملات الإعلامية ضده، لا يُذكَر أنه رد على أحد مهاجميه بلغة غاضبة، أو جارحة، ظلّ متزنا في طريقة تعامله مع الآخر وكأنّه يكتب قصيدة، إذ يُقال إن شعره يخلو تماما من البكاء، وإن قصيدته مفعمة بالأمل، إن لم تكن انعكاسا حقيقيا لابتسامته ونفسيته… لكن الأهم من كل هذا أن الرجل شاهد على العصر، وتاريخ في حد ذاته، ولهذا يبدو موروثه الشعري اليوم وتجربته التي اكتملت وثيقة مهمة، على كل ما عشناه على مدى قرن من الزمن من منظور شعري محض.
عقل كان يقول إنه شاعر وكفى، أما اختصاصاته الأخرى فلا يذكرها، مع أن الرجل ضليع في كل مادة درسها وبحث فيها، بما في ذلك دراسة اللاهوت والدين الإسلامي..
مهنته: شاعر
هوايته: شاعر
في أوقات فراغه يمارس الشعر
لقد سأله الشاعر اللبناني لامع الحر ذات يوم: ألا تشاهد التلفزيون مثلا؟ فأجابه: لا. أنا شاعر، ولا أمارس شيئا «بلا طعمة».. أنا أمارس الشعر فقط.
كل عبقريته نابعة من هذا «الجنون الشعري» إن صح القول، وكل آرائه سواء تقبلها العقل أم لم يتقبلها فهي رؤى شعرية لا تخلو من الحكمة وقدر عال من الحقيقة. عن المرأة قال أقوى ما يمكن أن يحرّك الأمة العربية كلها: «المرأة نصف الأمة، يجب أن تكون حاضرة في قيادة الأمة وعلى الدولة كدولتنا ذات طموح أن لا تترك المرأة الإسرائيلية وحدها تلي الحكم بعد رقعة تمتد من بغداد إلى طنجة»، لكن للأسف بوصلة «مرضى الثقافة» عندنا ركزوا على أشياء أخرى لجعل بعض آرائه مغيبة.
ولعل الكلام عن سعيد عقل بتجربة قرن من الشعر، لا يمكن اختصاره في مقال، لكنني أعتقد أنه يستحق أن يدخل «غينيس» لأنه الشاعر الوحيد الذي كتب باللغة العربية، وخصصت له 52 حلقة تلفزيونية ليروي سيرته، ويتحدث عن آرائه، وقد حاوره الشاعر هنري زغيب في برنامج سماه «سعيد عقل إن حكى» امتد تصويره على مدى سنتين (2005 – 2007) .. أمر يعرفه الكثيرون لكنهم لا يعرفون أنه استثناء في عالم الشعر العربي.

نعم سعيد عقل استثناء في عصرنا، عاش حياة لا تشبه حياة أحد، وختمها بقفلة لا تشبه نهاية أحد. وأنا متأكدة أن ما نعرفه عنه قليل، أمام بحر أيامه على مدى قرن وسنتين، وكل ما تحويه من أسرار وغرائب تحتاج لشجاعة كبيرة ولقرن آخر لنجعلها في واجهة المشهد الشعري في العالم.

٭ اعلامية وشاعرة من البحرين
نقلا عن القدس العربي

حول الموقع

سام برس