هيفاء حامد
تمر تونس هذه الأيام بلحظة تاريخية مفصلية تعد من أخطر المحطات في تاريخ البلاد، وتحديدا تاريخ الثورة التونسية، «ثورة الياسمين» التي لم تكن يوما ثورة للياسمين لأنها اغتالت في طياتها خيرة شباب تونس، منهم من غادر الحياة ومنهم من ظل مقعدا جريحا يلمم ما تبقى له من رغبة في الحياة وينظر إلى ما آلت إليه الثورة من انتكاسات، في ظل ما يلوح منذ فترة من عودة تدريجية ومتسارعة لرموز النظام القديم للحكم مجددا، وإن بمسميات جديدة.

الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية ستحدد مصير تونس ومشهدها السياسي والاجتماعي في الفترة المقبلة، فالبلاد تقف على مفترق طرق، في إطار التنافس بين مشروعين سياسيين واجتماعيين أساسيين لا ثالث لهما.
مشروع يبدو أقرب إلى إعادة البلاد إلى حقبة ما قبل الثورة، ورافعته الأساسية حزب «نداء تونس» بزعامة المرشح الرئاسي الباجي قايد السبسي (88 عاما)، وهو شخصية مثيرة للجدل. وقد شغل السبسي مناصب وزارية وحكومية متعددة في حقبتي الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، ثم في بداية حقبة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.

بوادر الردة إلى الماضي التي ظهرت في هذا المشروع كثيرة، بل زادت وضوحا منذ فوز حزب «نداء تونس» بأغلبية المقاعد في البرلمان في انتخابات 23 أكتوبر 2014. وهي أغلبية تحصل عليها الحزب، بعد أن استقطب في أطره رموز حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، إلى جانب بعض القوى اليسارية، لاسيما المحسوب منها على ما يعرف باليسار الاستئصالي، كان بعضها تحالف مع نظام الرئيس المخلوع بن علي في بداية حكمه. هذا طبعا إلى جانب شخصيات نقابية ورجال أعمال لم يكونوا بعيدين عن النظام السابق.

ويعتقد الكثير من المتابعين للشأن التونسي أن فوز النداء جاء تتويجا لحملة ومسار استمر من حوالي العامين، وارتكز على استراتيجية التخويف وسياسة حافة الهاوية التي ولدت تدريجيا ما يعرف بالخوف اللاعقلاني في صفوف قطاعات كبيرة من التونسيين.. خوف من الحاضر ومن المستقبل.
خوف سلط على التونسيين تحت تهديد آلة إعلامية وسياسية ممنهجة، ففي الوقت الذي استبشر فيه التونسيون خيرا بثورتهم التي أرادوا أن يسترجعوا بها حريتهم وكرامتهم التي سلبت منهم طيلة السنوات العجاف، وجدوا أنفسهم مخيرين بين الأمن أو الإرهاب والفقر.

عمليات إرهابية جرى تحديد مواقيتها المختلفة وأهدافها بدقة شديدة، لتكون بذلك العصا الغليظة التي سلطت على حكومة الائتلاف الحكومي بقيادة النهضة، انتهت بانتزاع الحكم منها، وتسليمه لحكومة تكنوقراط لا روح سياسية فيها. ما يبقي سؤال الإرهاب ومن استفاد من موجة الاغتيالات السياسية ومن عمليات الإرهاب الممنهجة، أمرا مشروعا ومحيرا للتونسيين؟
وقد هدد المدير التنفيذي في «نداء تونس» بحل الأحزاب التي ساندت المترشح المنصف المرزوقي قبل بلوغهم سدة الحكم، فكيف سيتصرفون في حال إمساكهم بالرئاسات الثلاث؟ ولم تكن هذه التصريحات مفاجئة إذا ما علمنا أن من بين 86 نائبا من نداء تونس في البرلمان الجديد، أحصى المراقبون 54 نائبا كانوا ناشطين في مواقع متقدمة في حزب التجمع المنحل، بل بعضهم نواب في برلمان بن علي عن التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل. وقد أكد الكثير من المتابعين للمشهد السياسي أن رافعة نداء تونس في حملته الانتخابية للبرلمان كانت ماكينة التجمع التي جرى تحريكها، لاسيما في الأيام القليلة السابقة عن عملية التصويت.

وإلى جانب شبكة المصالح الداخلية فإن شبهات وشكوك كثيرة تحوم بشأن ارتبطات «نداء تونس» بجهات خارجية تدعمه وتضخ أموالا فاسدة في المشهد السياسي التونسي، إفسادا للثورة واحتواء لعملية التغيير، تماما مثلما حصل في مصر قبيل وخلال الانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي. هذا وقد تسربت وثائق تفيد بتلقي «نداء تونس» سيارتين مصفحتين من إحدى الدول الخليجية، ويروج بقوة الحديث عن دعم مالي غير مسبوق من هذه الدولة للنداء.

وما يعزز مخاوف التونسيين من عودة النظام القديم وممارساته، أن السبسي المرشح الرئاسي للنداء، كان قد اعترف بنفسه بأنه زور انتخابات 1981 في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، بعد أن تبين أن حزب حركة الديمقراطيين الاشتراكيين قد تقدم فيها على حساب الحزب الحاكم. ويتساءل المتخوفون من عودة النظام القديم فكيف سيؤتمن هذا المرشح على مستقبل ثورة لم يؤمن بها أصلا على حد تعبيرهم؟
هذا ويصر حزب «نداء تونس» رغم تسنمه رئاسة البرلمان لمدة نيابية مدتها خمس سنوات، بالإضافة إلى حقه في تشكيل الحكومة المقبلة التي سيترأسها أحد رموزه، يستميت النداء في الإمساك بزمام أمور الحكم بالكامل، ويبدي عنادا وإصرارا على الفوز برئاسة الجمهورية، ما يمكنه من الاستحواذ على الرئاسات الثلاث، البرلمان والحكومة والرئاسة الجمهورية.

أما المشروع الثاني الذي يحمل في حقائبه ما تبقى من حلم الثورة التونسية فيتزعمه الدكتور محمد المنصف المرزوقي (69 عاما) الذي أصبح ظاهرة سياسية، والتفت حوله بصفة عفوية الفئات الشعبية التي انصهرت في تنسيقيات تدعو لمساندته، كما تسانده علنا بعض الأحزاب السياسية، بينها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي وحزب الإصلاح والتنمية وحركة وفاء وحزب البناء.
مرشح هذا المشروع وعنوانه الرئيس المرزوقي رجل حقوقي، له سجل حافل في مجال حقوق الإنسان ومثقف، وقد كان من أشرس المعارضين لنظام الرئيس المخلوع.

المرزوقي نجح في كسر الصورة النمطية لرئيس الجمهورية فتصرف بعفوية، لكن هذه الصورة الجديدة لرئيس الجمهورية البسيط في حياته وتصرفاته لم ترق للكثير من التونسيين الذين اتهموه بالقضاء على هيبة الدولة التي رسمت في مخيلتهم في شخص الرجل المغرور الذي يبث الرعب في النفوس كلما مر من مكان. ورغم رصيده الحقوقي الحافل إلا أن المرزوقي لم ينجح في الحصول على لقب الشخصية التوافقية التي تجمع عليها جميع الأحزاب التونسية وظل ممثلا للفئات التي مازالت تؤمن بمشروع الثورة التونسية.

أصحاب هذا المشروع الذي يمثله المرزوقي تحركوا لحماية ما تبقى من «الثورة المغدورة». ثورة انزاح بعيدا عنها رفاق المرزوقي في النضال بالأمس. إذ أعلن الناطق الرسمي باسم الجبهة الشعبية حمة الهمامي، وزعيم حزب العمال الشيوعي رفضه القطعي دعم المرزوقي، بل مضى أبعد من ذلك بدعوته إلى قطع الطريق أمام عودة المرزوقي إلى رئاسة الجمهورية بحجة أنه مرشح حركة النهضة وأحد حلفائها.

وقد اعتبر الكثير من المراقبين أن موقف الهمامي هو تمهيد لتحالف فعلي بين جبهة شعبية تقدم نفسها مدافعة عن العمال والفقراء، و»نداء تونس» الذي يزدحم حزبه برجال الأعمال وشخصيات محسوبة على النيوليبرالية، تحالف إن حصل سيكون هجينا وضد الطبيعة، ويحمل بذور فشله..

البلاد تعيش اليوم على مفترق مشروعين أساسيين، وسط مخاوف وتوقعات لإمكانية اندلاع موجة من العنف في حال تصادمت القوى الثورية والقوى المناصرة لعودة المنظومة القديمة. ستتعزز هذه المخاوف إذا لم تفشل القوى المدافعة عن التغيير في إحداث التوازن وفرض معادلة توازن القوة عبر النجاح في الوصول بالمرزوقي للرئاسيات. لذلك تمثل الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية محطة فارقة في تاريخ البلاد. فرئيس الجمهورية إلى جانب ما يمكن أن يمثله من توازن في المشهد السياسي، سيكون له حق صلاحية حل مجلس نواب الشعب في بعض الظروف الاستثنائية، وتعليق العمل بالدستور. بيد أنه وفي حال فوز مرشح النداء سيتم بصفة آلية احتكار السلط الثلاث سلط سيسطر عليها عراب واحد يحلم بلقب الزعيم الأوحد.

الملاحظ لنتائج سبر الآراء هذه الأيام يقف عند تساوي حظوظ المترشحين بل إن بعض هذه الاستطلاعات تؤكد تقدما ملحوظا للمرشح محمد المنصف المرزوقي على خصمه الباجي قايد السبسي. تقدم يبدو أنه سيقلب موازين المعادلة من جديد، الأمر الذي دفع بحزب نداء تونس طلب الاستغاثة من حزب حركة النهضة حتى تسحب مراقبيها من مكاتب الاقتراع يوم الانتخابات. مطلب وإن نفاه كلا الحزبين إلا أن ما يدور في الكواليس يؤكد ذلك ليبقى السؤال المطروح هل ينوي مشروع الردة القيام بعمليات تزوير بتغييب المراقبين عن مكاتب الاقتراع؟

المؤكد أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة حبلى بالأحداث والتحولات العميقة في المشهد السياسي التونسي، ليس فقط بسبب أنه مشهد مفتوح على كل الاحتمالات، وإنما أيضا لتأثره الشديد والمباشر بتحولات ومعطيات إقليمية وعربية كبرى لا تزال لم تقل كلمتها بعد.

٭ كاتبة صحافية تونسية

حول الموقع

سام برس