مفيد فوزي
■ كان أحمد بهاء الدين ينصح فى الكتابة «خذ مسافة واكتب»، والمغزى تكون النار قد انطفأت وصارت رماداً، والنفوس الثائرة قد هدأت والرجم بالطوب قد توقف.

قال الأستاذ هيكل آراء فى التليفزيون، ربما اجتهد وربما فطن إليها وربما راقت له وربما يمليها عليه تاريخه وربما كانت هذه رؤيته، المهم أنه قالها «صوت وصورة»، ولم تعجب هذه الآراء البعض، أخذوا منه موقفاً معادياً ولولا الملامة لخرجوا بالعصى وانتظروا على باب القناة كما الصعايدة لحظة الغضب، هاجوا عليه وشتموه شتائم تتراوح بين «حوش بردق» وأسواق البلطجة بغضب أعمى العيون.

إن الهدف من المقال الذى أكتبه هو الوقوف فى وجه «السوقية»، صحيح أن «الشتيمة مابتلزقش»، على حد قول شتام محترف، لكنها تجرح المشاعر وتؤذى الإحساس وتسيد منهجاً من العبث.

■ لابد قبل الاستطراد من الإشارة لعدة نقاط:

1- إننى أحب «الأستاذ» مهنياً، فهو صاحب الأسلوب شديد الجاذبية الملىء بالمعلومات ولا يقاوم، وكان مقاله الأسبوعى فى الأهرام «بصراحة» يعبر عن كف الدولة الناصرية الذى نقرؤه لنعرف خطوطها، وقد رضعت هذا الأسلوب فجر اشتغالى بالصحافة مفتوناً به ولازلت.

2- لست معنياً بفحوى المناقشات حول ما قال ولم يقل، ولا معنياً بنقل عينة من الشتائم التى انطلقت فى وجه الأستاذ لأنى «لست ناقلاً للكفر وإلا كنت كافراً»، ما أنا معنى به هو «أسلوب استقبالنا» لآراء مختلفة عن آرائنا ورؤى أخرى غير رؤانا.

3- فى ظنى أنه فى «الكتابة» يمكن ضبط المعنى وذكاء الصياغة، أما فى التليفزيون - تحت الأضواء - فهناك السهو وربما الخطأ غير المقصود باستثناء الثوابت، وللدقة أكثر، إن التحليل السياسى مجاله الكتابة وليس التليفزيون، فمن السهل أن يضيع خيط الحوار بسؤال جديد أما التحليل فوق الورق، فالكاتب لديه التزام لا يخضع لأى عارض ولا يقتحم عليه خلوته.

4- لا ينتظر منى هيكل «الأستاذ» فى كل زمان.. دفاعاً عنه، فلست من «حوارييه» وإن كنت من «مريديه»، فأنا لا أخاطبه تليفونياً كل صباح، ولا أناصره فى الخطأ كما الصواب، ثم إن مريديه هم «السائرون ليسوا نياماً» وراء المهنة، ومهنية هيكل فوق الجدل، وأعترف أنى جزعت وانزعجت.

5- إننا لا نملك ثقافة الاختلاف، ونود لو قطعنا من نختلف معهم بالسكاكين وهو أسلوب يتجاوز الجاهلية والمكارثية.

6- لقد تعود «الأستاذ» على هذه الصرعة والصرع حين يكتب رأياً يخالف رأى القبيلة فتهب العواصف محملة بالغبار و.. الشتائم.

7- إن هيكل تاريخ لابد أن يشب الأقزام ليروه جيداً.

■ النزول إلى آبار «المعانى» قد يضىء ظلمة طريق، فالشتيمة فى معجم المعانى الجامع هى «السب والإهانة والتجريح»، شتم أى وصف «بما فيه من نقص وازدراء»، وشتم فى موضع آخر أى «سب قبحاً»، وقال حكيم «النقاش مع الجهلاء كالرسم على الماء»، ويقال عن كتب التاريخ إن الحقيقة فيها نسبية، لكن فى قلب المؤلف وليس عقله، وربما قال قائل إن غضب «الأستاذ» وصل إلى حد الحنق فى كتابه «خريف الغضب»، ذلك هو هيكل السجين فى عهد السادات والمبتعد عن أروقة الحكم والسلطان بعد وفاة عبدالناصر، ومن حق هيكل التحيز إنسانياً ضد الرجل الذى سجنه.

لابد هنا من الإشارة إلى كتاب عادل حمودة ألمع صحفيى شباب جيله عندما كتب عن هيكل فى كتابه «خريف هيكل» ولست الآن معنياً بأسباب الخلاف بين صديقين هيكل وحمودة وشهد على ذلك عشرات يعرفون طبيعة «التلاقى» بين الاثنين ومن أبرزهم الراحل د. ميلاد حنا، الذى قال لى مرة: «تأمل أسلوب هيكل وأسلوب عادل حمودة، ستجد الروح والجرس الموسيقى يكاد يتطابق مع حفظ المسافات والتجربة والزمن» أقول بعد أن قرأت كتاب حمودة إنه التزم المهنية - مهما كانت النبرة فى المخاطبة - وبالطبع لم يداعب حمودة الأستاذ هيكل بل كان يبارزه ويناطحه فكرة بفكرة، ولم تخرج عبارات عن مداها الآمن وإن كانت بعض «التوابل» الشخصية حاضرة على المائدة.

■ جادلوه ولا تشتموه، مثلما «تعارك» يوماً ما كاتبان محل اعتزازى أحدهما بدأ حياته «كمسارى» وبإرادة فولاذية عمل على تطوير ذاته حتى بلغ ما بلغه من شهرة لكاتب، وأعيب عليه أنه كتب مقالاً بعنوان «يا حيوان.. افهم» إشارة إلى اسم المرحوم الأستاذ محمد الحيوان. أخطأ د. عبدالعظيم رمضان فى الرد حين استخدم اسم الكاتب فى شتيمة مقصودة لم تكن لائقة بالمرة، أتذكر أننى عاتبت د. رمضان ونحن نحضر مناسبة مغربية، فقال لى: «فى المعارك الصحفية لا قواعد ولا دستور». واعترضت يومئذ على وجهة نظره وقلت إن هدف الشتائم يا دكتور هو «التحقير بين ذويك» وهو مبدأ قانونى نبهنى إليه يوماً د. جمال العطيفى، المستشار القانونى لروزاليوسف، وقال د. رمضان: أنا لم أشتمه، فقط خاطبته باسمه، فهو من عائلة الحيوان، وآثرت الصمت لأن الموضوع انتقل من الجدل إلى السب، وتاهت الفكرة موضوع الخلاف بين الكاتبين، وعلى جانب آخر قرأت فى مطلع الشباب مقالاً نارياً لأحمد بهاء الدين كتبه فى أخبار اليوم بعنوان «لا.. يا شيخ» وكان موجهاً لفضيلة الشيخ محمد أبوزهرة، عميد حقوق القاهرة وقتئذ، كان المقال تفنيداً لبعض آراء الشيخ أبوزهرة الذى كانت له شهرة خاصة فى الحجة والبرهان ومع ذلك «جادله» أحمد بهاء الدين دون خروج على المهنية أو آداب المخاطبة. هناك عشرات المقالات التاريخية يسطع فيها «الجدل» وتتوارى الشتيمة تماماً.

■ جادلوا «الأستاذ» ولا تشتموه، فالجدل «لغة» المتحضرين، والشتيمة «لغة» الصبية فى الحوارى، لقد كان أفلاطون يرى فى فن الجدل «جزءاً من تطور المعرفة»، والجدل - أضف إلى معلوماتك - مصطلح يونانى يعنى فن الحوار والنقاش، وقد نشأ الجدل فى اليونان، فالجدل فى لغة المعاجم معناه «مخاصمة فكرة» ومعناه «المناظرة ومقابلة حجة بحجة» وفى ميكانيكية علم الجدل هو «الاعتماد على التشكيك وتبيان نقاط الضعف»، وهو فن التحاور بغية الوصول للحقيقة بطرح فكرة والفكرة المضادة لها، والجدل فى الإسلام ليس «أسلوباً لإضاعة الوقت فيما لا فائدة فيه بل هو أسلوب يتآزر فيه أكثر من عقل للكشف عن الحقيقة وإشاعة المعرفة، ويصل الجدل - فى لغة المعاجم - إلى «قتل الخصم ورده بالكلام عن قصده الباطل»! ومن سورة النحل «وجادلهم بالتى هى أحسن».

■ جادلوا هيكل ولا تشتموه، فالشتائم جرائم لا تفيد ومضيعة للوقت وأسباب للتناحر ومناخ قائم للازدراء، الجدل لا الشتيمة هو «صدام متحضر بين فكرتين، الهدف منه استنباط رأى ثالث وربما كان الأكثر نضجاً»، هل انتقل المظهر العام من قاموس الشتائم إلى ألسنة النخبة لا فض فوها فصارت تتعامل بهذه «العملة»؟ وإذا كانت النخبة والمثقفون يشتمون، فما بالك برعاع القوم؟ أنا لم أقل إن هيكل ملاك من السماء وأدرك جيداً أنه بشر و«لكل عالم هفوة»، و«جل من لا يسهو» ولكن ليس هذا مبرراً للشتيمة، وفى آداب التليفزيون أنه «لا ينبغى شتيمة الغائب» بمعنى أنه غير مستباح شتيمة من لا يملك الرد فى حينه ولا هو بمستساغ، وأتذكر أن هيكل نفسه رفض الشتائم التى وجهناها يوماً للدكتور البرادعى وقال إنه لا يوافق على «الأسلوب» فى الغضب لأنه «غير متحضر». كان الأستاذ يقصد أن قذائف اللهب التى وجهناها للدكتور البرادعى تشفى غليلاً ولا تفيد بمعلومة عن أسباب مواقفه وما نتفق معه فيها أو نختلف، رفض هيكل هجمية المدفعية الهوجاء.

■ حين تعرض البيت الريفى للأستاذ فى برقاش للنهب والسلب والحرائق - فى زمن الإخوان - كتبت أخاطبه كما كتب غيرى: تكلم.. عبّر عن غضبك، أنت صوت وصورة، أنت مؤثر، ولكنه لاذ بالصمت، وكان بإمكانه - لو شاء - أن يقيم الدنيا لو تحركت كاميرا تليفزيونية ترصد أطلال ما تبقى من حطام البيت الريفى الأكثر قرباً إلى قلب هيكل، ولكنه لم يتكلم، وكظم غيظه وخنق حزنه ولجم غضبه، نحن الذين غضبنا أكثر منه، وإلى الآن إلى عمق صمت الأستاذ لم أصل! وهذا من صفات القديسين فى تحمل الألم ونبذ العنف والرد بعنف.

■ فى مجتمعنا الآن ونحن على أبواب «عام الحقيقة» وفى عموم حياتنا، إذا قلنا: يسقط الجدل، ويسقط مقارعة الحجة بالحجة، ويسقط تفنيد الفكرة بالفكرة، ويسقط التحضر مع من نختلف معه، ويسقط المنهج والموضوعية فى الرد على الآخر، وتسقط الأخلاقية فى مواجهة القيمة والقامة، كان لزاماً علينا أن نقول - بغير أدب أو تحفظ أو خجل: تحيا السوقية.

■ لماذا أرفع شعار «ضد السوقية»؟

1- لأن كل الأديان تحرّض على «الأخلاقية» فى السلوك الإنسانى.

2- لأني أخشى أن تصبح السوقية «منهج حياة» فى البيت والشارع والمدرسة وداخل مدرجات الجامعة.

3- للسوقية غبار ودخان وأتربة، كفيلة بـ«تعطيل مسيرة وطن».

4- لأننا نسينا فى غمرة الأحداث أن الطفل «مٌقّلد» جيد للكبار ومازلنا - من باب الهزار والدلع - نقول لأطفالنا حين يبدأون مرحلة النطق «تِف على أبوك يا واد»!

5- حين تسود الشتائم فى تعاملاتنا ونتلاسن بالأب والأم فقل على خرائط الطريق السلام.

6- وإذا كنت قد اخترت «التطاول» على الأستاذ هيكل نمطاً لهذه السوقية، فقد اختمرت فى ذهنى تراكمات أخرى من هذا القبيل و«عمر الغوغائية ما تبنى بلد».

7- إن الحوار - بالعقول لا بالألسنة - «مانع صواعق»، إن كنتم لا تدرون.

حول الموقع

سام برس