بقلم / حمدي دوبلة
لو كان ذلك الشاب التونسي الذي أحرق نفسه ذات يوم أواخر العام 2010م احتجاجاً على اعتداء رجال البلدية على عربته الصغيرة التي يعتاش منها يعلم بأن فعلته ستقود إلى كل هذه المحارق والمشانق والفتن لتحلى بالصبر والجلد ولعاد إلى منزله محتسباً وموكلاً أمره إلى الله القادر المنتقم.

ابن الخضراء محمد بوعزيزي أشعل النيران في جسده المثقل بالهموم في لحظة ضعف ويأس وتمرد بعد أن حطم الجنود الأغبياء في بلدة سيدي بوزيد وسيلة رزقه الوحيدة فتفيض روحه إلى بارئها في حادثة إنسانية حزينة كانت بإجماع المحللين والمتابعين للشأن السياسي في العالم الشرارة التي أدت إلى اندلاع ثورات ما عرف بالربيع العربي الذي طال أوانه وتفرعت ثمراته ومناخاته الحافلة بالخطوب الجسام والمعاناة المقيمة والمخاطر المحدقة بالمنطقة العربية وشعوبها.

قطعاً هذا المسكين لم يخطط لكل الأحداث التي تلت واقعة وفاته كما أنه لم يكن له يد في امتداد هذا (الربيع) من المغرب العربي إلى أرض الكنانة ثم الشام واليمن .. ولكن ما هو مؤكد ومعلوم للجميع فقد كانت هنالك في المرصاد قوى سياسية طامحة للسلطة والنفوذ وقد رأت في معاناة البوعزيزي وأمثاله من الاشقياء والمحرومين والكادحين وما أكثرهم في منطقتنا فرصة مواتية للإطاحة بالخصوم السياسيين والانتقام منهم و التربع على عرش السلطان وبالتالي راحت تبالغ وبجنون في العزف على أوتار آلام الناس ودغدغة مشاعرهم واطلاق الوعود جزافاً بإنقاذهم من جحيم الحياة والوصول بهم إلى النعيم الموعود والنزف المفقود وفي ظرف زمني قصير .. دون أن تدرك تلك القوى خطورة مثل هذا النهج ودون أن تحسب حسابا لآثار ومغبة الركون الكلي على الشارع والذي قد ينقلب بين عشية وضحاها إلى نحور وصدور أصحابه.

لقد أعمى بريق الكرسي وهيلمان المجد والسلطان أبصار بعض القوى فتجاهلت تجارب الزمن وحكم السابقين الأولين ومنهم على سبيل المثال لا الحصر ابن تيمية الذي قال قديما بأن (فتنة ساعة يقع فيها من المفاسد ما لا يقع في 20 سنة من الظلم) وأنه (قل من خرج على أيام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر أعظم مما تولد من الخير) وغير ذلك من الحكم والأمثال البالغة في هذا الجانب.
وها هي الفتن اليوم وفي أكثر من بلد عربي تتوالد وكأنها قطع من الليل المظلم وها هي الدماء تسفك يومياً ولا تزال والانشقاقات والخلافات تزداد اتساعاً بين أبناء البلد الواحد يوماً بعد آخر وإذا بكل ما كان حلماً جميلاً لطالما أطرب عقول دعاة وأنصار الربيع العربي كوابيس مرعبة لا تبارح عقول ونفوس مواطني بلدان الربيع ومعهم بقية دول المنطقة التي لم تعد في مأمن من الاكتواء بنيرانه ولو بعد حين.

واليمن التي نالها نصيب من ويلات ومثالب الربيع الطويل ربما تكون أوفر حظاً مقارنة مع بلدان أخرى اتت الفتنة فيها على الأخضر واليابس وأصبحت مباهجها ومظاهر الحياة فيها كهشيم تذروه الرياح واطلال تحكي الخراب والدمار بابلغ الصور واللغات.

هذه الأفضلية النسبية لليمن من بين بلدان الربيع العربي تعود إلى حكمة ودهاء القيادة السياسية في النظامين السابق واللاحق والتي استطاعت ومعها كثير من الشرفاء من قيادات القوى والمكونات السياسية وبحنكة مشهودة تجنب الأسوأ وتلافي حرب ضروس لربما استمرت عقوداً طويلة إذا ما دارت رحاها لا قدر الله .. وما أحوج الشعب اليمني اليوم وقد مسه الضر إلى توحد وتضافر جهود وخبرات ودهاء وحكمة هؤلاء القادة في الحكم والمعارضة من أجل الخروج بالوطن من هذا المأزق الخطير والانتصار لأبناء هذا الشعب الصابر المحتسب الذي بات يتوق بحنين وشغف لخلاصٍ قريب.

حول الموقع

سام برس