محمد كريشان
ـ حضرتك أسترالي… تفضل غادر السجن فأنت حر طليق.
ـ أنت مصري ـ كندي… تنازل عن الجنسية المصرية حتى تخرج.
ـ أنت مصري… خليك في السجن.
هكذا جرت باختصار شديد عملية الإفراج عن الصحافي بقناة «الجزيرة» الأنكليزية الأسترالي بيتر غريستي، فيما طـُــلب من محمد فهمي التخلي عن جنسيته المصرية حتى يغادر السجن ويرحَل إلى كندا، أما باهر محمد فلا يملك من كل ذلك شيئا وعليه أن يظل وراء القضبان، في القضية المعروفة إعلاميا بـ «خلية الماريوت» التي صدرت فيها بحقهم مع آخرين أحكام بالسجن بين سبع وعشر سنوات بتهم فبركة مواد إعلامية للإضرار بالأمن المصري والانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين.

لم يفكر أحد من السلطات المصرية على ما يبدو في حجم الإهانة الوطنية التي سببها مثل هذا الإجراء الذي تم بناء على قانون جديد يسمح للرئيس المصري بترحيل الأجانب المتعلقة بهم قضايا في مصر إلى دولهم لاستكمال مدة العقوبة أو إعادة محاكمتهم هناك. وفي حالتنا هذه من المستحيل طبعا أن يتم ذلك، لأن لا أحد في أستراليا أو كندا مقتنع بما وجه لمواطنيهما من اتهامات، ولا أحد على كل يؤمن باستقلالية القضاء لا في مصر ولا في غيرها من بلاد العرب.
قالها بيترغريستي (الذي بالمناسبة توقف في قبرص مما يدل على أنه حر ولم يرحل إلى بلده مباشرة) وهو يعرب في مقابلة تلفزيونية عن اختلاط فرحه بالقلق على زميليه: «ما دام من حقي أن أكون حرا فهو حق للجميع»، بل وقالها أيضا، بمرارة، المذيع المصري عمرو أديب في برنامجه بأن « لا أحد سأل كثيرا من الصحافييـْـن المصرييـْــن غير قناة «الجزيرة»، وطالما خرج الخواجة الأسترالي فهو بمئة رجل وأهم من المصرييْــن الآخريْـن» واصفا محمد فهمي بـ «الغلبان» لأن عليه أن يتنازل عن جنسيته المصرية فيما لم يجد وصفا لباهر محمد الذي عليه أن يظل في السجن في هذه القضية فقط لأنه مصري.

الأمرَ أن يأتي الأجنبي ويلوم السلطات المصرية أنها تعاملت مع مواطنيها بهذا الشكل، فها هي البريطانية «سو ترتان» زميلة الصحافيين الثلاثة تقول لشبكة «سي أن أن» الأمريكية إنه «لم يكن من اللائق بحق مصر أن تعامل من يحمل جنسيتها بطريقة مختلفة عن الأجانب» فهي بالطبع عاشت في بلد يفعل العكس تماما وكذلك سائر الدول الغربية. أكثر من ذلك، تقول هذه الصحافية بأن محمد فهمي «ممن يفتخرون بوطنيتهم وهو ينتمي إلى أسرة عسكرية وتخليه عن الجنسية المصرية صعب جدا بالنسبة إليه، لكنه لم يعط خيارا آخر للخروج من السجن». أما «الضربة القاضـــــــية» فهي عندما تقول «سو ترتان»، مازحة، بأنها فكرت في تبني فهمي لتصبح جدته حتى ينال حريته لكن «قيل لي إنه حتى هذا الخيار لن ينجح»!!.

ما من شيء أكثر فداحة وإيلاما من قضية زج هؤلاء الصحافيين في السجن، في قضية مفتعلة ولا أساس لها، أكثر من هذا الإفراج الذي يميز الأجنبي عن إبن الوطن الذي يرى إن هناك إمعانا في مزيد ظلمه لأنه «أبتلي» بحمل جنسية بلده!!

هذا كله يجعل العربي يشعر أكثر فأكثر بأن «مأساته» المتمثلة في حمل مواطنته في وطنه وبين أهله قد تفوق ما كان يظن أنها مأساته فقط عندما يكون خارجه.
ما جرى في الحالة المصرية لا يمكن أن يقود، شئنا أم أبينا، سوى أن يلعن الواحد اليوم الذي ولدته فيه أمه في هذه الربوع!! كما أن لا أحد بإمكانه أن يلوم أي إمرأة عربية تختار أن تسافر إلى أمريكا حاملا حتى تضع مولودها هناك ويحصل على الجواز الأمريكي الأزرق الذي يجعلك مهابا ومحترما أين ما حللت، طبعا إلا في الأماكن التي يحكمها أناس يلبسهم عفريت كل ما هو أمريكي بلا تمييز.

لا أحد بإمكانه أيضا أن يلوم كل من اختار الهجرة إلى كندا مثلا لأنه سيتمكن بعد سنوات من تحمل قسوة الطقس البارد هناك من الحصول على الجواز الذي يسمح له بأن يعامل بطريقة مختلفة في أي دولة في العالم…. بما فيها الدولة التي ولد فيها وترعرع وتعلم وتزوج وأنجب!!
المفارقة أن من يقف في الضفة الأخرى لأولئك الذين يجعلونك تشعر بثقل حملك لهذه الجنسية العربية أو تلك، هم هذه الجماعات المسلحة المتطرفة في كل من العراق وسوريا وما جاورهما، فقد دفعت أعمالهم الوحشية المشينة، وخاصة هذا الذبح لأجانب أبرياء من بينهم صحافيون وموظفو إغاثة، دولا عديدة إلى إعادة النظر في كل إجراءاتها الأمنية ومن بينها بالخصوص إجراءات حصول العرب والمسلمين تحديدا على التأشيرة أو الإقامة في كثير من الدول.
لقد التقى كثيرون على هذا العربي المسكين الذي يكاد يصرخ بعكس الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش ليقول : لا تسجل أنا عربي!
القدس العربي



حول الموقع

سام برس