سام برس
يعتقد السائح العربي عموما، والسائح الخليجي خصوصا، أن النمسا بلد سياحي يستحق الزيارة صيفا بحكم جمال العاصمة فيينا بقصورها التاريخية وحدائقها المنمقة، ولما تمتاز به أقاليمه من طقس بديع وجبال وسهول ووديان وبحيرات زرقاء، لا سيما بحيرة زيل إم سي. تلك البحيرة التي يوم تجرأ أحد مسؤوليها وأصدر كتيبا بدعوى نشر ثقافة سياحية أرقى وبروتوكولا ينبه السياح العرب لما هو مقبول وما هو مرفوض. مع توبيخ أن السائح الخليجي يتصدر قمة زوار البحيرة وأكثرهم بذخا، وأن ما يصرفه يفوق ما ينفقه سياح المنطقة الآخرين، سواء السياح الألمان أو الأميركيون أو الروس أو الصينيون.
وليس سرا أن منافسة عارمة تنداح بين الأقاليم النمساوية والعاصمة فيينا كل صيف لجذب السياح العرب والخليجيين على وجه الخصوص في فصل الشتاء.
تعتبر النمسا من أهم البلاد التي حباها الله بجمال طبيعي طيلة العام وليس في الصيف فقط، جمال يزداد بهاء، لكونه متنوعا يختلف من فصل لآخر فإن كانت النمسا خضراء صيفا فهي مزهرة ربيعا ملونة الأوراق خريفا بيضاء شتاء.
هذا البياض الضارب شتاء سببه ما يهطل على النمسا من ثلوج تغمرها تماما، فتعمم قمم الجبال وتكسو المرتفعات وتفرش المنخفضات والسهول. ثلوج تبقى لأيام بل وشهور طيلة فصل الشتاء ما بقيت درجات الحرارة دون الصفر لدرجة أن تتجمد مياه كثير من البحيرات، ولهذا تنشط النمسا شتاء في تقديم برامج سياحية شتوية من نوع خاص تأتي في مقدمتها الرياضات الشتوية وتسويق الجمال الشتوي الطبيعي لمحبي الثلوج والمغرمين بأجواء «دافئة» بأساليب حميمية شعبية بسيطة بما في ذلك مدافئ الحطب القديمة والأطعمة التقليدية.
«الشرق الأوسط» غادرت العاصمة فيينا واتجهت غربا إلى أشهر مناطق الثلوج بإقليم تيرول، حيث أعلى قمم جبال الألب النمساوية الشامخة بارتفاع يفوق 3000 متر فوق سطح البحر بحثا عن ثلوج بيضاء ناصعة تنبسط على مرمى البصر، ثلوج من تلك النوعيات التي يصدق وصفها بالكريستالية التي لا تشوبها شائبة، بل بياض في بياض يمتد على طول البصر في سحر طبيعي خالص.
إذا كنت تعتقد أن فيينا لا تغمرها الثلوج أو أنها لا تعرف الرياضات الشتوية، ففكر مليا، لأن ثلوجها هي من تلك النوعية التي غالبا ما تغمر الأرض ليلا ثم تبدأ في الذوبان والتلاشي مع ارتفاع درجات الحرارة نهارا خاصة مع كثافة حركة وسائل المواصلات والبشر بالمدينة مما يعكر لونها ويهشش قوامها.
ومن حيث الرياضات الشتوية فإن فيينا تزخر بصالات مغلقة كما تحتفي سنويا بحلقة للزحلقة تفرش بثلوج صناعية أمام مجلس بلدي المدينة بالإضافة لحلقات أخرى وأندية.
هذا في حين تزخر مرتفعات الجبال خاصة بأقاليم سالزبورغ وتيرول وفورالبرغ بثلوج طبيعية سميكة توفر لمحبي مختلف أنواع الرياضات الشتوية ما يشتهون لشهور وطيلة العام في أعلى القمم التي تزداد جمالا فائقا كلما تشرق الشمس وتسطع مما يكسبها لونا ذهبيا يخلب الأبصار.
وكما هو معلوم فإن جبال الألب تمتد من النمسا وسلوفينيا شرقا مرورا بإيطاليا وسويسرا وليتشتاين وألمانيا حتى فرنسا وموناكو غربا، وتعتبر قمة مون بلان أعلاها بارتفاع 4810 أمتار فوق سطح البحر وتمتد على مساحة 1200 كيلومتر مغطية ما يقدر بـ11 في المائة من القارة الأوروبية.
وجهتنا كانت أعلى قمم جبال الألب النمساوية بمنطقة «أرل باخ» واختيارنا كان منطقة «كيتزبول» التي تعد واحدة من أجمل المرتفعات.
ورغم جدال نمساوي هولندي سويسري فإن النمساويين يدعون بقوة أن كيتز بوهيل «مهد» رياضة التزلج على الجليد إطلاقا فيما يتفقون ويقول الآخرون إن مكتشف تلك النوعية من الرياضة هو النرويجي «سوندر نوهيم» الذي طور من الوسائل التقليدية التي كان سكان الجبال يستخدمونها للحركة في الجليد باستحداثه آلية مكنت ليس من مجرد الحركة، وإنما التزلج على الجليد باستعمال مزلاجات والاستعانة بقضبان حديدية وحذاء خاص مما يساعد على الحفاظ على التوازن والتزلج والقفز المتعرج كذلك وفي سرعة فائقة في حال اكتساب المهارة بسبب تدريبات قاسية.
من جانبها، تشتهر «كيتز بوهيل» التي لا يتعدى عدد سكانها ثمانية آلاف مواطن كونها من أشهر مواقع التزلج وعموم الرياضات الشتوية التي تنشط بكثافة قبل نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) وحتى مارس (آذار) ومن ثم تستعد سهول كيتز بوهيل لاستقبال فصلي الربيع والصيف، حيث تستضيف محبي سباقات السيارات ورياضة الجولف.
في عمومه يمتاز إقليم تيرول بموقع جغرافي يتوسط جبال الألب التي تحيطه كما تنتشر فيه البحيرات مما يكسبه جمالا طبيعيا لا يضاهى.
من جانبها، تتوسط كيتز بول تيرول محاطة بعدد من القرى المشهورة بمسارات التزلج بمنطقة «أرل بيرغ»، ومنها سينت أنطون وهانيكام وسي فيلد وليخ التي تعتبر أكثر المنتجعات جذبا للأسر الأوروبية المالكة ومنافسا خطيرا لمنتجعات التزلج الفرنسية ولا مجال للإيطالية.
ومن مميزات كيتس بول ثراؤها بمناطق تزلج شعبية أقل تكاليف وأخرى أرستقراطية باهظة التكاليف كما تمتاز بمسارات متعرجة ومنحدرات فجائية وأشهرها منحدر هاننكام أو «عرف الديك».
وبالطبع تلزم السلطات المتزلجين بضرورة الحفاظ وتوخي الحركة داخل المسارات المحددة، منبهة لأهمية متابعة أخبار الطقس بصورة دائمة ولملاحقة أخبار الثلوج المتحركة «اللافينا» التي يجب عدم الاستهانة بها وفي هذا المجال تتوفر برامج حاسوب خاصة يمكن إنزالها ضمن برامج الهواتف الذكية توفر معلومات عن المواقع المحتملة لانهيارات جليدية.
وقد تصل درجة الخطورة للرقم 5 وفي تلك الحالة تصبح أخبار الثلوج هي الأهم نمساويا ومهما كانت أهمية أخبار العالم الآخر.
عادة يحرص المسؤولون على توجيه التعليمات بالغة الصرامة للمهرة من الرياضيين ممن يغتر بعضهم بمهارته العالية بحثا عن مزيد من المغامرات والتحديات و«التفحيط»، داعين لضرورة تجنب ما يسمونه «الموت الأبيض»، وذلك عندما تؤدي غزارة الأمطار مع شدة الرياح لانهيارات جليدية تزيح في طريقها كتلا كاملة.
ومن أهم متطلبات السلامة أن يلبس الجميع خوذات للعناية بالرأس بجانب الحفاظ على أجهزة ضبط تحدد موقع المتزلج للوصول له بالسرعة المطلوبة في حال غمرته الثلوج.
وللنمسا في هذا السياق تجربة قاسية بعد الحادث الذي تعرض له بمنطقة ليخ ابن ملكة هولندا الأمير «يوهان فريزو» 43 عاما.
كان الأمير الهولندي معروفا بمهارته إلا أنه بتاريخ 25 بتاريخ 25 فبراير (شباط) 2012 خرج عن المسار وانهارت به الثلوج التي اندفن تحتها لمدة 15 دقيقة في حادث مميت لم ينجُ منه رغم ما توفر له من علاج. وكانت فرق الطوارئ قد تمكنت من الوصول إليه بفضل جهاز طنان كان بحوزته.
في سياق آخر، يستمتع المتزلجون عادة بساعات من رياضة ممتعة في هواء نق وطلق ومن جانبها توفر المنتجعات كل ما يحتاجه روادها من ملابس وأحذية ومعدات للإيجار كما تتوفر مدارس ومدربون للمبتدئين ومن يحتاجون مساعدة وبالطبع لا تألو متاجر المدينة بدورها في توفير الاحتياجات كافة، سواء للشراء أو للإيجار.
إلى ذلك، يشتهر قلب كيتس بول القديم، والذي يعود تاريخه لأكثر من 700 سنة بشوارع متعرجة وضيقة ومبانٍ ملونة مزخرفة كما تميزه منطقة خاصة بالمشاة تزخر بمقاهٍ ومتاجر فخمة تعرض آخر صيحات الموضات رواجا وأكثر الماركات شيوعا ومن أجملها «بوتيكات» صغيرة لها واجهات زجاجية يتفننون في تنسيقها، كما يفتخر أهل المنطقة بما يقدمون من مأكولات تقليدية.
يمكن الوصول لكيتس بول بأكثر من طريق ووسيلة بما في ذلك برا وجوا من أنسبورك عاصمة تيرول على بعد 95 كيلومترا، ومدينة سالزبورغ عاصمة إقليم سالزبورغ على مسافة لا تزيد على 80 كيلومترا، كما لا تبعد عن مدينة ميونيخ عاصمة إقليم بافاريا بألمانيا سوى 125 كيلومترا، بالإضافة لمطاري مدينة لينز ومدينة زيوريخ السويسرية.
كل هذه المدن تشغل حافلات منتظمة بالإضافة للطريق البري السريع «هاي وي» يربط عموم النمسا. عبر هذا الطريق تستغرق الرحلة بالسيارة من فيينا ما يزيد قليلا على 4 ساعات حتى في ظل عواصف ثلجية كتلك التي غمرتنا؛ إذ تنشط الزحافات في جرف الثلوج طيلة اليوم بما في ذلك ساعات متأخرة ليلا.
وأكدت سيدة سعودية التقتها «الشرق الأوسط» بفندق تيرولا سبا الفخم، أنها تزور كيتس بول للمرة الرابعة، وأنها تصلها مباشرة بقصد عطلة تزلج، موضحة أنها تتزلج يوميا لمدة 5 ساعات، مشيرة إلى أن التزلج على الجبال فوق أراضي المراعي بمرتفعات كيتز بول التي رغم ما يغطيها من جليد تختلف تماما عن الأرضيات الإسمنتية الصلبة مما يسهل كثيرا من عملية التزحلق.
بدورها، أشارت صديقة كانت برفقتها إلى أنها وزوجها قصدا كيتس بول، أساسا، طلبا للراحة والاستجمام والاستمتاع بالقراءة بعيدا عن لهث الحياة اليومي وزخم متطلبات الواجبات الاجتماعية، ولقضاء عطلة قصيرة تجدد النشاط بما يتوفر خلالها من خدمات صحية تقدمها بصورة فردية منتجعات صحية عالية التأهيل، ومن ذلك الدلك وحمامات البخار والطين المعطرة بالأعشاب والساونا والمساج والسباحة في هدوء وسكون بجانب متعة المناظر البانورامية والثلوج الكريستالية التي تنتشر على مرمى البصر.

عن الشرق الأوسط

حول الموقع

سام برس