سام برس
عندما اقتربت «أميرالد برنسيس»، السفينة السياحية المحيطية العملاقة الأنيقة، من لشبونة، عاصمة البرتغال والميناء الرئيس، ظهر الماضي والحاضر في وقت واحد. إلى الشمال القلاع التاريخية، ومنها قلاع إسلامية، منذ الحكم الإسلامي للأندلس. وإلى الجنوب، الضواحي الحديثة، والبلاجات الجميلة. وإلى الجنوب البعيد، بلاجات «الغرف» (أصلها الكلمة العربية: «الغرب»)، واحدة من أجمل شواطئ أوروبا.
ومثلما تتمتع لشبونة بتاريخ نادر، تتمتع بجغرافيا نادرة. هي العاصمة الأوروبية الوحيدة التي تواجه المحيط الأطلسي مباشرة،. والوحيدة التي حولها نهر كبير إلى ميناء طبيعي: نهر «تاغوس». وأصل اسمه «تاجه» (كلمة عربية). وينبع من جبال «ابن زرين» (عربية) في وسط إسبانيا المجاورة.
يسمى أهل لشبونة مدينتهم «لسبوا». وأصل الكلمة «السبو»، اسم قائد روماني وصل إليها في القرن الثالث قبل الميلاد. وكلمة «البرتغال» أيضا أصلها روماني: «بورتو كالي».
في عام 714، وصل المسلمون إلى لشبونة، بقيادة طارق بن زياد، مولى موسي بن قسي، حاكم المغرب الجنوبي. عبر مضيق جبل طارق، باسم عبد الرحمن الداخل، حاكم المغرب الشمالي. وانتصر طارق على الفايكنغ (رجال الشمال)، من أشرس شعوب العالم القديم. وكانوا زحفوا من اسكندينافيا، إلى ألمانيا، إلى فرنسا، إلى الأندلس.
وفي عام 1013، سقطت الخلافة الإسلامية من عاصمتها قرطبة. وتفرقت إلى دويلات، وبدأ عصر ملوك الطوائف. وحكم لشبونة المتوكل بن الأفطس، ثم أولاده وأحفاده.
وفي عام 1174، في عهد الوالي محمد بن هود، احتل لشبونة المسيحيون، بقيادة ألفونسو هنريك. وكان بابا الفاتيكان قاد تحالفا للمسيحيين في أوروبا ضد المسلمين. وفي نفس الوقت الذي أبحر فيه صليبيون إلى القدس لتحريرها من المسلمين، أبحر صليبيون من بريطانيا إلى الأندلس لتحريرها من المسلمين.
* سياح أميركيون
* استقل مجموعة من السياح الأميركيين حافلة راقية طافت بهم في لشبونة الماضي، ولشبونة الحاضر. وكان اسم المرشد السياحي «أميريكو» (أيضا، «أميريغو»). هذا من اسم «أميريكيو فوسبتشي»، المكتشف الإيطالي الإسباني الذي اكتشف أميركا، بعد أن وصل المكتشف كولومبوس إلى جزر البحر الكاريبي. ومن اسم «أميريكو» جاء اسم «أميركا».
أول ما حرص عليه المرشد السياحي، وهو يخاطب مجموعة من السياح الأميركيين، أن يشرح الصراع التاريخي، ليس بين البرتغال، في جانب، والأفارقة والآسيويين والعرب والمسلمين، في الجانب الآخر، ولكن بين البرتغاليين وجيرانهم الإسبان.
وقدم «أميريكو» المقارنات الآتية:
في جانب، مساحة البرتغال مائة ألف كيلومتر مربع، وسكانها عشرة ملايين، وجملة الدخل الوطني ربع تريليون دولار في السنة، ومتوسط دخل الفرد عشرون ألف دولار في السنة.
في الجانب الآخر، مساحة إسبانيا نصف مليون كيلومتر مربع، وسكانها خمسون مليون، وجملة الدخل الوطني تريليون ونصف تريليون في السنة، ومتوسط دخل الفرد ثلاثون ألف دولار في السنة.
لكن «أميريكو»، وهو البرتغالي المتحمس، قال: «لولا البرتغال لما اشتهرت إسبانيا. نحن الأوائل في الاكتشافات». وكان واضحا من كلامه وجود عداء تاريخي بين البلدين. ليس فقط بسب المنافسات في الاكتشافات، ولكن، أيضا، لأن إسبانيا احتلت البرتغال. وعن هذا قال «أميريكو»: «لم يقدروا على منافستنا، فاحتلونا».
* الماضي والحاضر
* طافت الحافلة في لشبونة الماضي، ولشبونة الحاضر. وقال «أميركيو» إن لشبونة الماضي تنقسم إلى قسمين:
الماضي الإسلامي: في أماكن مثل: حي القلعة، وحي القنطرة، وحي «الفام» (الحمام).
والماضي المسيحي: في أماكن مثل: في قلعة «بيليم»، ودير «جيرونيماس». في الدير، صلى المكتشف البرتغالي فاسكو دا غاما قبل أن يبحر، في بداية الاكتشافات البرتغالية، والتي كانت بداية الاكتشافات الأوروبية، في أفريقيا، وآسيا، والشرق الأوسط، وأميركا.
طبعا، لم يشترك المسلمون في الاكتشافات الأوروبية. ولا يوجد أي أثر للمسلمين في متحف الاكتشافات، ولا في نصب المكتشفين.
لكن، كما قال «أميريكو»، المرشد السياحي، رب ضارة نافعة. في عام 1453، استولى المسلمون على القسطنطينية (عاصمة الإمبراطورية المسيحية الشرقية). وقطعوا الطريق بين أوروبا وآسيا (حيث حرير الصين، وبهارات الهند). وبدأ الأوروبيون، بقيادة البرتغاليين، البحث عن طريق آخر إلى آسيا.
في عام 1495، أبحر كريستوفر كولومبوس، الإسباني البرتغالي، إلى أميركا الشمالية. وفي عام 1497، أبحر فاسكو دا غاما، البرتغالي، إلى الهند. وفي عام 1499، أبحر بدرو الفارض، البرتغالي، إلى أميركا الجنوبية (البرازيل حاليا). وفي عام 1500، أبحر ألفونسو البوكوركي، البرتغالي، إلى الهند، ثم إلى الشرق الأوسط. ووصل إلى مضيق هرمز في عام 1507.
* أين رأس الخليفة؟
* في متحف الاكتشافات، صور، وخرائط، وتماثيل عن وصول البرتغاليين إلى بلاد العرب.
حسب هذه المعلومات، تحالف البرتغاليون مع الفرس ضد العرب. وكانت عائلة الجبريد تحكم المنطقة من عاصمتها البحرين. في البداية، فرض المسيحيون والفرس الجزية على الخليفة مقرن بن زامل الجبريدي. وعندما تمرد، حاربوه، وانتصروا عليه. ودخل قائد فارسي قصر الخليفة في البحرين. وقتله. وأرسل رأسه إلى القائد البرتغالي، الأدميرال كوريرا، الذي كان في هرمز. والذي احتفظ بالرأس. وأخذه معه إلى البرتغال، دليلا على هزيمة أخرى للمسلمين، ليس فقط في الأندلس، ولكن في الشرق الأوسط.
سألت المرشد السياحي: أين رأس الخليفة الآن. وقال إنه ليس متأكدا، لكنه يعتقد أنه في متحف في مسقط رأس الأدميرال.
وحسب المعلومات في متحف الاكتشافات، احتل البرتغاليون الخليج لمائة سنة تقريبا.
كان هدف البرتغاليين، وأوروبيين آخرين، هزيمة الخلافة الإسلامية التركية من الجنوب، بعد أن هجموا عليها من الشمال والغرب. وتحالف معهم بعض الفرس الغاضبين على الأتراك (سماها أوروبيون «الثورة الفارسية الكبرى»).
لكن، استمر حكم الأتراك لأربعمائة سنة بعد ذلك. حتى هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى، وحتى تمرد العرب عليهم (سماها الأوروبيون «الثورة العربية الكبرى»).
في المتحف، معلومات عن حكام الخليج قبل خمسمائة سنة. وإشارات إلى قبائل عربية، منها قبيلة «منداعية»، التي يقال إنها من بقايا قبيلة النبي نوح عليه السلام. وإن لهم صلات بقبائل حرانية وإبراهيمية، ونبطية، وبالصابئة (ذكرهم القرآن الكريم).
* متحف فاسكو دا غاما
* تفتخر البرتغال، الصغيرة الآن، بماضيها عندما كانت إمبراطورية عملاقة تمتد من البرازيل إلى الهند. وتفتخر برائد الإمبراطورية: المكتشف فاسكو دا غاما.
وفي المتحف المسمى باسمه، لم يعد غاما برتغاليا، ولكن صار عالميا:
هناك فريق «غاما» لكرة القدم في البرازيل. وضاحية «غاما» في جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا. وكنيسة «غاما» في مقاطعة كيرالا (في الهند). ومدينة غوا (تحريف اسم غاما) في الهند. وحي «غاما» في جزيرة سنت هيلانه (في المحيط الهندي). ومنخفض «غاما» على سطح القمر.
وحسب لوحة في المتحف: «لم يساهم غربي في نشر السيطرة والأثر الغربي في دول العالم الثالث مثل فاسكو دا غاما».
كان الملك جون الثاني كاثوليكيا متدينا. وزود غاما، الذي كان مثله، بالأدعية والصلوات. وسمى بعض سفنه أسماء دينية: «سان غبرائيل» و«سان رفائيل.» وعندما أبحر غاما شمالا من رأس الرجاء الصالح، ساحل شرق أفريقيا، سماه «ناتي» (مولد المسيح، في اللغة البرتغالية).
* الكاتدرائية والجامع
* يوجد في كاتدرائية لشبونة التاريخية تركيز واضح على الجانب الديني في الاكتشافات.
أول شيء: كان علم البرتغال أيام الاكتشافات هو «أورديم ميليتا دي كريستو» (العلم العسكري لعيسى المسيح).
في الحقيقة، حتى العلم الحالي فيه رموز من الماضي: اللونان الأحمر والأخضر يرمزان للصراع، مع بداية القرن العشرين، بين رجال الدين والديمقراطيين (الأحمر، لون رجال الدين، والأخضر لون الجمهوريين). ويتوسط اللونين درع عملاقة. وداخل الدرع الرموز الآتية:
أولا: سبع قلاع: تمثل قلاع ملوك الطوائف المسلمين الذين هزمهم المسيحيين.
ثانيا: خمس دروع: تمثل «سينكو شاكاس» (جروح المسيح الخمسة عندما صلب).
وتوجد داخل الكاتدرائية معلومات وصور وتماثيل عن عصر الاكتشافات. ومنها أن الملك ألفونسو وفاسكو دا غاما صليا في الكاتدرائية قبل أن يبحر غاما إلى أفريقيا والهند. وأن غاما تحدث عن حلم رأى فيه عيسى المسيح يقول له: «سافر وانشر كلمتي وسط غير المؤمنين».
حسب معلومات «أميريكو»، بنيت الكاتدرائية الكبرى على أنقاض جامع لشبونة الكبير. وبعد أن تجول فريق السياح الأميركيين داخل الكاتدرائية، وقضوا فيها وقتا طويلا، قال لهم «أميركيو» إن في جانب من الكاتدرائية حفريات لبقايا الجامع. ولكن، بينما زيارة الكاتدرائية مجانا، زيارة مكان الحفريات ليست مجانا.
ولم يتحمس السياح الأميركيون لدفع دولارات لزيارة الحفريات، وقرروا العودة إلى الحافلة.
بالنسبة لي، المسلم العربي الأفريقي، كانت تلك لحظات توتر داخلي، فعلت كل شيء لإخفائه. وحمدت الله لأن الأميركيين قرروا عدم زيارة مكان الحفريات. وكنت أمام خيارين:
أولا: إذا ذهبوا، ورفضت أنا، سأثير تساؤلاتهم.
ثانيا: إذا ذهبت معهم، لا أعرف كيف كنت سأتصرف، وربما كنت سأفعل أشياء تسبب لي مشكلات كثيرة.
* حرب مع المسلمين
* وفي متحف آخر، تفاصيل أول حرب بين البرتغاليين والمسلمين في شرق أفريقيا، عندما وصلت إليها سفن غاما، في طريقه إلى الهند. وكان هناك أكثر من سبب:
أولا: المنافسة التجارية، لأن المكتشفين والتجار العرب كانوا وصلوا إلى شرق أفريقيا قبل ذلك بمئات السنوات.
ثانيا: المنافسة الدينية، خاصة لأن الملك جون الثاني، وغاما، كانا كاثوليكيين متدينين، ولم يخفيا أن الهدف من الاكتشافات كان تجاريا وأيضا دينيا.
وكانا يريدان نشر المسيحية في أفريقيا، ثم في الهند، ثم في الخليج، ثم في الصين، ثم في اليابان، خطوة خطوة مع توسع الاكتشافات.
سألت «أميركيو»، المرشد السياحي، بطريقة دبلوماسية، عن غياب «الآخر»، غياب رأي المسلمين والهندوس والبوذيين والأفارقة.
وفوجئت بأنه يعرف عن الموضوع أكثر مما توقعت. وقال إن رسالته في تاريخ الاكتشافات البرتغالية لنيل شهادة الماجستير كانت عن هذا الموضوع. لا أعتقد أنه كان يجاملني عندما قال إنه «يحس» حزني، رغم أن الموضوع، طبعا، مضت عليه أكثر من خمسمائة سنة.
قال إن فاسكو دا غاما، قبل الحرب مع مسلمي شرق أفريقيا، حاول أن يخدعهم. وتخفى في ملابس عربية، وقال إنه مسلم، وقابل سلطان المسلمين في زنزبار، وآخر في موزمبيق.
لكن، كشفه المسلمون، وأعلنوا الجهاد عليه. لكن، كانت سفنه متطورة أكثر من سفن المسلمين (وكانت فيها مدافع لم يعرفها المسلمون). ولهذا، دمر عددا كبيرا منها، وسارع وترك كل ساحل شرق أفريقيا، وواصل رحلته نحو الهند.
وقال «أميريكو» إنه لم يظهر عداء الرجل الأبيض المسيحي فقط وسط مسلمي شرق أفريقيا. ظهر، أيضا، وسط هندوس الهند عندما وصل غاما إلى ميناء ممباسا. كان أول مكتشف مسيحي أبيض يصل إليها. وواجه معارضة قوية، وأكثر من محاولة اغتيال.
في الحقيقة، اعتقدوا أنه مسلم، في وقت كانت الهند تشهد فيه حروبا بين الهندوس والمسلمين. ظنوه المكتشف العربي ابن ماجد الذي كان اشتهر على ساحل الهند الغربي.
* التعددية الثقافية
* توجد في متحف آخر لوحات ومعلومات عن أوبرا «لوسيادا» (عام 1839). وأوبرا «الأفريقية» (عام 1865). وتصور الاثنتان اكتشافات البرتغال ومستعمراتها.
وأمام لوحة، سألت «أميريكو» عن الجدل بين محاسن الاكتشافات (والاستعمار، والامبريالية)، ومساوئها.
قال، في خليط من دفاع ونقد لماضي بلده، إن الاكتشافات جمعت بين الاستعمار والحضارة. وإن فاسكو دا غاما نقل إلى أوروبا البهارات والمنتوجات الآسيوية. ونقل إلى آسيا نظام الحكم والمصنوعات الحديدية.
وتحمس «أميريكو»، وقال إن غاما كان من أوائل الأوروبيين الذين وضعوا أساس «مالتي كالشراليزم» (التعددية الثقافية). لأنه ربط بين شعوب مختلفة، وربما متناقضة، في الثقافة، والدين، والعرق، والخلفية الحضارية. وإن أوبرا «لوسيادا»، وأوبرا «الأفريقية». صارتا رابطا ثقافيا، وحضاريا، بين العالم الأول والعالم الثالث. وإنه، في عام 1989، انتقلت أوبرا «لوسيادا» إلى سان فرانسيسكو. وتوسعت، بهذا، الروابط الحضارية بين الشرق والغرب.
غير أن «أميريكو» قال إنه يعرف أن كثيرا من الناس في العالم الثالث، وخاصة في المستعمرات البرتغالية السابقة (مثل البرازيل، وموزمبيق، وأنغولا)، يركزون على المساوئ أكثر من المحاسن. وقال إنه، في رسالة الماجستير، كتب عن هذا الموضوع. وأشار إلى حدثين:
أولا: يغني هيو ماساكيللا، من أشهر مغني جنوب أفريقيا، أغنية «فاسكو دا غاما». ومن كلماتها: «ليس فاسكو دا غاما صديقي. كان فاسكو دا غاما استعماريا».
ثانيا: أنتج المنتج السينمائي الهندي سانتوش سيفان فيلم «أورومي»، عن محاولة اغتيال غاما، عندما كان حاكما على الهند، بواسطة هندي غاضب على الاستعمار البرتغالي.

نقلاً عن الشرق الأوسط

حول الموقع

سام برس