سام برس
في الليلة التي سبقت وصول «أميرالد برنسيس»، السفينة المحيطية الأميركية السياحية العملاقة الفاخرة، إلى ميناء «زيبروغ»، القريب من بروكسل، عاصمة بلجيكا، قدم أستاذ جامعي متقاعد محاضرة لبعض السياح عن بلجيكا. من وقت لآخر، تستأجر السفينة أساتذة جامعات متقاعدين لتقديم محاضرات قبيل وصولها إلى ميناء دولة أخرى. ولا بأس للأساتذة: كلام، مقابل رحلة محيطية مجانا.
كان مقدم المحاضرة عن بلجيكا هولنديا. وركز على تاريخ بلجيكا، وعلى العداء التاريخي بين بلجيكا وهولندا، وعلى مستعمرات بلجيكا في أفريقيا (الكونغو، رواندا، بوروندي). لكنه لم يتحدث عن مستعمرات هولندا نفسها (إندونيسيا، غيانا، سنت مارتن).
في اليوم التالي، وخلال جولة مجموعة من السياح الأميركيين في حافلة راقية في شوارع بروكسل، لم يتحدث المرشد السياحي البلجيكي عن الماضي أبدا. ركز على المحاضر على أوروبا الموحدة، وعلى بروكسل عاصمتها، وعلى بلجيكا في تنوعها.
* الماضي لنبدأ بالمحاضر:
ربما لا توجد دولة تختلف أسماؤها هكذا: «بلجيوم» بالإنجليزية، «بلجي» بالهولندية، «بلجيك» بالفرنسية، «بلجيان» بالألمانية (بالعربية: بلجيكا. ربما تأثرا بالاسم الفرنسي).
وربما لا توجد مدينة تختلف أسماؤها مثل عاصمتها: «بروسلز» بالإنجليزية، «بروكسل» بالفرنسية، «بروسل» بالهولندية (بالعربية: بروكسل. ربما تأثرا بالاسم الفرنسي).
وربما في هذا دليل كبير على أن بلجيكا، أولا: عصارة تاريخ أوروبا. ثانيا: العاصمة الحقيقية لحاضر أوروبا.
عصارة تاريخ أوروبا لأن أصل اسمها روماني. سماه الغزاة الرومان بقيادة يوليوس قيصر، قبل ميلاد المسيح بمائة سنة تقريبا، على قبائل أوروبية شمالية اسمها «بولج» (الغاضبون). وأثنى عليهم قيصر، وميزهم عن الألمان (جيرمانيا) في الغرب، وعن الفرنسيين (غال) في الجنوب. لكنهم كانوا كلهم، بالنسبة للرومان، «بارباريانز» (متوحشين، بدائيين).
في وقت لاحق، غزا الألمان البلجيك (القرن 5). ثم غزاهم الفرنسيون (القرن 8). ثم تقسم البلجيك بين هؤلاء وأولئك (القرن 9). ثم غزتهم الإمبراطورية النمساوية (الهابسبيرغ الذين ورثوا الإمبراطورية الرومانية الشرقية المقدسة). ثم غزاهم تحالف الإمبراطوريتين النمساوية والإسبانية. وبعد حرب الثمانين عاما (القرن 16) ضد الإمبراطوريتين، تقسمت المنطقة (الأراضي المنخفضة) إلى هولندا، وبلجيكا، ولكسمبورغ. ونالت كل دولة الاستقلال، أو شبه الاستقلال، لأنها دول صغيرة، وكانت تحت رحمة الدول الكبيرة (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا). كما أن هولندا كانت أقوى من بلجيكا، واستعمرتها.
* الفرنسيون وغزاهم الفرنسيون (القرن 18) بعد الثورة الفرنسية. ومرة أخرى تمردت الدول الثلاث الصغيرة (القرن 19) مع سقوط الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت. ومرة أخرى، كانت هولندا أقوى من بلجيكا، واستعمرتها.
وفي عام 1830، ثار البلجيك على هولندا، ونالوا استقلالهم، أخيرا.
لهذا، خلال محاضرة الأستاذ الجامعي الهولندي في السفينة «أميرالد برنسيس»، لم يخف نظرة هولندية دونية نحو البلجيك. خاصة نحو سكانها الفرنسيون. وكان واضحا أنه، الهولندي البروتستانت، ينظر نظرة دونية نحو كل الكاثوليك، فرنسيين وبلجيك.
وفي الحقيقة، كان جزء كبير من الحروب الأوروبية في ذلك الوقت بين الكاثوليك (الفرنسيين والإسبان والنمساويين، بقيادة بابا الفاتيكان) والبروتستانت (الألمان والبريطانيين والإسكندنافيين). وفي النهاية، صار الهولنديون بروتستانت، وانقسم البلجيك، حتى يومنا هذا.
ثم جاءت فتوحات البلجيك لأحراش أفريقيا، وخصوصا الكونغو. أصل الاسم هو قبيلة «كونغ» (صيادو الأسود). وكانت الفتوحات جزءا من الصراع بين البلجيك والهولنديين. وبعد استقلال البلجيك من الهولنديين (عام 1830)، قال البلجيكيون إنهم ليسوا أقل من الهولنديين، ولا بد أن يستولوا على مستعمرات مثل مستعمرات الهولنديين.
* الكونغو كان البرتغاليون، الأوائل في الاكتشافات الأوروبية، اكتشفوا الكونغو (القرن 15). لكنهم لم يقدروا على دخول أحراشه لأنها كانت الأحراش الأسوأ بسبب توحش قبائلها، وكثرة أمراضها (مثل: مرض النوم). وأرسل الملك ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، حملة «إنسانية» لعلاج السكان. ثم أسس «جمعية الكونغو الخيرية». ثم أعلن أن الكونغو «ملك خاص» له، ليقدر على توسيع حملته «الإنسانية». وهكذا، كانت الكونغو ملكا خاصا لملك بلجيكا، وأولاده، وأحفاده، لأكثر من مائة سنة.
وعن هذا قال البروفسور: «يظل الكونغو أكثر دول أفريقيا تأخرا لأنه لم يكن مستعمرة. كان ملكا خاصا». وأشار إلى أن رواية «هارت أوف داركنيس» (قلب الظلام) للروائي البريطاني جوزيف كونراد عن استغلال الأوروبيين لمستعمراتهم في أفريقيا، كتبت من وحي ملكية الملك ليوبولد البلجيكي للكونغو.
وعندما احتجت فرنسا والبرتغال في مؤتمر برلين (1884) حول ملكية الملك للكونغو، منح الملك فرنسا جزءا (هو الآن جمهورية الكونغو، وعاصمتها برازفيل). ومنح البرتغال جزءا (هو الآن أنغولا، وعاصمتها لواندا). واحتفظ بالجزء الأكبر (هو الآن جمهورية الكونغو الديمقراطية، وعاصمتها كينشاسا).
* المرشد البلجيكي يوم زيارة مجموعة السياح الأميركيين لبروكسل، عاصمة بلجيكا، لم يتحدث ألبرت، المرشد البلجيكي عن الماضي أبدا. ركز على الحاضر، وعلى أن بروكسل هي عاصمة أوروبا. وأن تقسيم بلجيكا إلى ثلاثة أقسام (فرنسية، ألمانية، هولندية) ليس دليلا على تمزقها، ولكن على تعدديتها، وعلى أنها تمثل أوروبا (ماضي التقسيم، وحاضر الوحدة).
وخلال يوم مشمس دافئ، طافت حافلة أنيقة عملاقة بمجموعة السياح الأميركيين. وكان واضحا أن ألبرت لا يريد فقط الدعاية لبلجيكا، ولكن، أيضا، للاتحاد الأوروبي، في مواجهة ضمنية ودبلوماسية وغير مباشرة مع الأميركيين. وعلى اعتبار أن الاتحاد الأوروبي أكثر تعددية، وارسخ ماضيا، وأقوى حضارة من الولايات المتحدة.
هنا رئاسة الاتحاد الأوروبي، وهنا قيادة حلف الناتو، وهناك مقر اللجنة النووية الأوروبية.
وهنا كاتدرائية «هولي بلود» (الدم المقدس). وهنا كنيسة «أور ليدي» (سيدتنا)، وهنا أروع ما نحت مايكل أنجلو: «مادونا أند جايلد» (العذراء والطفل).
ومثل مرشدين سياحيين كثيرين خلال هذه الجولة في أوروبا، لم يتحدث المرشد البلجيكي عن المسيحية، وعن مسيحيته، أو حتى مسيحية الأوروبيين. لكنه تحدث عن الكنائس، والقباب، والكاتدرائيات كجزء من التاريخ والتراث. وكأنه يفصل بين الدين والدولة، ولا يفصل بين الدين والناس.
* تمثال شهير وجمع تمثال «مانيكين بيس» (الطفل الذي يتبول) بين الماضي والمستقبل: نحت قبل أربعمائة سنة (القرن 17). لكن، كما قال المرشد السياحي: «انظروا إلى ملامح وجهه. إنه يتطلع إلى المستقبل، في تصميم وقوة (وكأنه توقع بروكسل عاصمة الاتحاد الأوروبي)».
وقال المرشد إن الطفل يرمز أيضا إلى التنوع.
كيف، وهو طفل أوروبي أبيض؟
قال إنه، في أوقات معينة، تحتفل بروكسل بالأقليات العرقية. وتلبس الطفل زي أقلية معينة: ساري هندي رجالي، عباءة عربية، قميص غودو كوري، قبعة مكسيكية، جلباب أفريقي فضفاض، إلخ (مع وضع فتحة في المكان المناسب في كل زي).
وهناك «بارلامنتاريان» (البرلمان الأوروبي السياحي)، الذي يطلع الزوار على الماكينة السياسية الأوروبية: النظام الديمقراطي، الانتخابات، التصويت، اتخاذ القرارات، الدول الأعضاء. وتوجد خريطة تفاعلية عن الدول، والشعوب، واللغات. وتوجد شاشات لمناقشات البرلمان الأوروبي، واللجان المتخصصة.
وهناك «أتوميوم» (أوروبا المصغرة): متنزه فيه الدول الأعضاء، ويتنقل الزائر من دولة إلى دولة: ساعة «بغ بن» في لندن، جندول في البندقية، مترو باريس، سقوط حائط برلين، مناطحة الثيران في مدريد، إلخ.
* المتحف العسكري لا يوجد متحف عسكري في أوروبا، وربما في العالم، مثل الذي في بروكسل. ليس فقط لأنه عملاق (نحو مائة ألف قطعة من أسلحة، أزياء عسكرية، خرائط عسكرية، تماثيل جنود وأسلحة، إلخ) ولكن لأنه يلخص تاريخ أوروبا العسكري. وذلك لأن منطقة «لولاند» (الأراضي المنخفضة) التي تضم بلجيكا، وهولندا ولكسمبورغ، كما ذكرنا، شهدت كثيرا من المعارك لتنافس الدول الكبرى (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، إسكندنافيا) حولها. ولسببين:
أولا: تقع في الخط الفاصل بين الكاثوليك والبروتستانت.
ثانيا: تقع على منفذ أوروبا الرئيس على المحيط الأطلسي. ينبع نهر الراين من سويسرا، ويمر عبر ثماني دول حتى يصب في المحيط. وكانت السيطرة عليه من الأسباب الرئيسة للحروب في أوروبا.
في المتحف أسلحة من العصور الوسطى، وغزوات الرومان، ونابليون، ونهاية بغزو الألمان بقيادة هتلر (الحرب العالمية الثانية). وهناك دبابات «بانتون» الأميركية العملاقة (التي حررت أوروبا من الألمان).
* المرشد ألبرت خلال جولة الحافلة الأنيقة في بروكسل، وهي تحمل مجموعة السياح الأميركيين، ظهرت منافسة ضمنية وغير مباشرة (ربما مثل التي ظهرت في كل دول أوروبا خلال هذه الجولة). لا يكاد الأميركيون يعترفون بتفوق أي دولة عليهم. في الجانب الآخر، تفتخر هذه الدول بتراثها العريق، والذي، طبعا، هو أقدم من تراث أميركا.
وتحمل «ألبرت»، المرشد السياحي البلجيكي المسكين، كثيرا من الانتقادات الدبلوماسية «المهذبة».
وأثار أميركيون عدم الاستقرار السياسي في بلجيكا. وسأل واحد منهم: «لماذا تتغير الحكومة عندكم كل سنة، وحكومتنا تتغير كل أربع سنوات، بل كل ثماني سنوات؟».
هذه إشارة إلى أن النظام البلجيكي ملكي دستوري وديمقراطي برلماني. ويساعد النظام البرلماني على عكس الانقسام الإثني واللغوي والثقافي في بلجيكا (ألمان، فرنسيون، هولنديون). وزادت مناورات الأحزاب السياسية هذا الانقسام. وزادت الخلافات العقائدية هذه الانقسام، لأنها تتقسم حول ثلاث مجموعات: المسيحيين (اليمينيين) والليبراليين (المعتدلين) والاشتراكيين (اليساريين). ليس فقط على مستوى الدولة، ولكن، أيضا، على مستوى كل إقليم من الأقاليم الثلاثة.
لأربعين سنة تقريبا (حتى 1999)، حكم بلجيكا تحالف ثلاثة أحزاب. وبعد ذلك، تحالف ستة أحزاب. وكان لا بد أن تهتز هذه التحالفات، خاصة بسبب ظهور حزب الخضر، وزيادة قوة النساء السياسية، وزيادة قوة المثليين، و«الحرب ضد الإرهاب» (في عام 2003، عارضت الحكومة غزو العراق).
وبداية من عام 2007، تظل بلجيكا تشهد ربما حكومة جديدة كل سنة. ويتنبأ خبراء سياسيون بأن البلاد ستتقسم، يوما ما، حسب الانتماءات الإثنية، واللغوية والثقافية.

نقلاً عن الشرق الأوسط

حول الموقع

سام برس