بقلم / عـــلاء ثابت
تلح على ذهنى منذ سنوات طويلة فكرة استعادة قيمنا الرمضانية الأصيلة، وأنا أرى متغيرات سريعة تمر على طريقة احتفائنا بالشهر الكريم، وكنت فى طفولتى أجد احتفاء مختلفا، أكثر بساطة، لكنه لا يقل سعادة وارتياحا، ربما لأنى من جيل يحن إلى الماضي ، وأؤيد الدعوة إلى العودة للقيم الرمضانية التى تدعونا إلى التقشف، أو على الأقل عدم الإكثار من الطعام وأنواع الحلوى والولائم الكثيرة، فالشهر الفضيل الذى ركيزته الامتناع عن الطعام والشراب مع أول ضوء إلى آخر ضوء للشمس، يتعارض فى مضمونه مع البذخ الزائد فى كثرة أنواع الطعام وأغلاها ثمنا، وملء البطون فى المساء بأضعاف ما صمنا عنه فى النهار، وكأننا ننسخ بل نقلب المغزى والقيمة، التى تجعلنا نتقاسم الشعور مع الفقراء والمحتاجين، ونعمل على كسر تلك الفجوة بالتكافل والتعاطف، ليصبح المجتمع أكثر تماسكا، تحكمه قيمة الجسد الواحد مثلما يجمعه الوطن الواحد، ولا أريد تكرار تلك المواعظ التى أدرك أن معظمنا يعرفها، وربما يحفظها، لكننا لا نغيرها، فهل من سبيل لأن نجمع بين احتفائنا الحداثى بالشهر الكريم مع احتفاظنا بمضمونه وقيمه؟ علينا أن نفكر فى تلك المعضلة، حتى لا يصبح رمضان شهر الأكل بنهم، والاستهلاك المفرط، والعمل القليل والنوم الكثير، والسهر الطويل.

سألت أصدقاء لى كيف لنا أن نحاول التوصل إلى توافق بين قيم رمضان وما حدث من متغيرات من الصعب أن نلغيها أو نمنعها، خاصة بعد أن تعلقت بها أجيال جديدة من الشباب، وأصبحت لدينا محال ومقاهٍ وسرادقات وتمثيليات تغطى اليوم كله، وسهرات رمضانية فى أكثر الأماكن الدينية، من السيدة إلى الحسين والغورية، وحتى الفنادق الكبرى والكثير جدا من أماكن السهر والسمر، أليس أمامنا سبيل لتلك المصالحة الضرورية بين قديمنا وحديثنا؟ ألا يمكن أن نجعل من شبابنا أيادى خير تمتد للفقراء بالمساعدة، وتخصص وقتها للمحتاجين، وتعد لنا قوائم معلومات حديثة عن المحتاجين وطرق مساعدتهم بطريقة إنسانية وحضارية؟ وأسعدنى للغاية أنى وجدت مجموعات كبيرة من الشباب تقوم بتلك المبادرات الإنسانية، لا تمضى وقت النهار فى النوم أو الليل فى السمر والاستمتاع، ووهبت وقتها وجهدها وأموالها التى من جيوب شبابها وعدد من المتبرعين لدعم تلك المبادرات المتوافقة مع القيم الرمضانية، دون أن تمنع غيرها من الاحتفال بالشهر الكريم على طريقته، وزادت تلك المجموعات الشبابية، وكان أضخمها فى مبادرة «كتف فى كتف» التى أسهمت فيها الدولة لتكون أيادى الخير الممتدة إلى كل بقاع بلدنا الكبير بحجمه وعدد سكانه، وفئاته غير القادرة، والتى توفر احتياجاتها بصعوبة فى أقل الحدود، ولم تكن تلك المبادرة هى الوحيدة، وهذا ما أسعدني، فهناك من نظموا وجمعوا المال وأعدوا قوائم بعدد من القرى النائية والمناطق العشوائية والشعبية، وتوجهوا إليها بسياراتهم، ووزعوا ما معهم من طعام ومواد غذائية على أشخاص والعديد من الأسر التى لم يسبق لهم معرفتها، بل جمعوا معلومات عن الفئات الأقل دخلا، ليدخلوا البهجة عليهم، وكم كانت فرحتى كبيرة بهؤلاء الشباب، ليس فقط لأن مبادراتهم الطوعية جاءت بدوافع شخصية منهم، بل لأنهم أعادوا ما كنت أحلم به من ترسيخ القيم الرمضانية، وألا تذوب فى أجواء كرنفالات احتفالية مليئة بالكثير من أطايب الطعام والحلوى والسهرات حتى السحور.

كنت أخشى أن يجد شبابنا فى أجواء الاحتفالات الكرنفالية فى الفنادق والمطاعم الفخمة ما يجعلهم ينسون الغاية من الشهر الكريم، وكيف أنه حثنا على التقليل من الإنفاق على الطعام، وأن نوفر بعضه من أجل الفقراء، خاصة أننى كنت أتابع بقلق حجم الإنفاق على الطعام والمكسرات وغيرها من السلع المستوردة استعدادا لشهر رمضان، وأجد أنها تفوق كثيرا حجم الإنفاق فى الشهور العادية، بل تتضاعف، ليصبح رمضان عبئا على ميزانية الفقراء والطبقات المتوسطة، بينما كان الحال منذ عقود قليلة أن الأسرة الريفية أو فى المدن الصغيرة تربى عددا كبيرا من الطيور، وتدخر بعض الدقيق والسمن وغيره، ولهذا لم يكن شهر رمضان يكلفها الكثير، وتستقبل فى اليوم الأول جميع أبناء العائلة ليفطروا معا، وتكون مائدة الترابط الأسرى التى يحرص عليها كل غائب أو مغترب أو بعيد، وتتجمع العائلة تحت أنوار الشهر الكريم، وتصلى معا، ويتبادلون الأحاديث والأخبار، فيتعرفون على أحوال بعضهم البعض، لكن تلك القيمة الرمضانية أخذت فى الانحسار، وأصبح الاتصال والتواصل عبر الهواتف المحمولة، ورسائل التهنئة عبر الإنترنت، حتى التعازى أصبحت عبر منصات التواصل الاجتماعي، فوهنت العلاقات العائلية، ولم يعد من الضرورى أن تتجمع العائلة، لكن مازالت الأغلبية تتمسك بالتواصل المباشر، وتستعد لقضاء أول أيام رمضان فى رحاب العائلة، وتقيم الشعائر معا، فتتعزز الروابط، ويستمر التماسك، ولا ينال التقدم التكنولوجى من المساس بتلك العادات الراسخة التى تتوارثها الأجيال، وعلينا أن نشجع استمرار تلك الروابط والعادات، وألا نستسهل التواصل الافتراضي، لأنه لا شيء يغنى عن التواصل المباشر، والحضور الحقيقي، الذى يصبح سندا روحيا ومعرفيا وقيمة لا ينبغى أن تتراجع، لأنها قيمة أصيلة، ويحتاجها الإنسان، وحث عليها ديننا الحنيف.

إن ما وجدته لدى الكثير من شبابنا يطمئننى على أن القيم الرمضانية سوف تبقى، وأن ما شابها من عادات متعارضة يمكن أن يتراجع، دون أن نحرم شبابنا وأجيالنا الجديدة من إدخال عناصر جديدة للفرحة، مادامت لا تتعارض مع قيمنا الرمضانية الأصيلة، وأن يصبح الإنفاق الزائد فى رمضان ليس موجها لكثرة الاستهلاك، لكنه نصيب الفقراء ومحدودى الدخل من موازنتنا الشخصية والعائلية، وننفق أكثر فى رمضان بالعطاء والتراحم والمحبة، وليس لملء البطون بأكثر مما تحتمل، وبهذا نكون قد استعدنا القيم الرمضانية الأصيلة، وتعلمنا من شبابنا المضى فى الطريق الصحيح بأدوات جديدة، لكنها على نفس المسار الحافظ لقيمنا وعاداتنا ومبادئ ديننا، وكل عام وأنتم بخير وسعادة.

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس