بقلم/د. هالة مصطفى
تمرد يفجينى بريجوجين مؤسس مجموعة فاجنر على الدولة الروسية, ومطالبته باعتقال قائد جيشها ورئيس أركانها, ثم سيطرته على مدينة روستوف جنوب البلاد, وتهديده بالزحف نحو موسكو, وتحديه السلطة المركزية, يعتبر الأقصر فى تاريخ حركات التمرد والانقلابات العسكرية, إذ لم يدم سوى 24 ساعة, وسرعان ما انتهى دون أن يحقق شيئا يُذكر.

ليتم نعته بتمرد اليوم الواحد, الذى باتت وسائل الاعلام تتندر به, ويصفه البعض بمسرحية كتب فصولها زعيم الكرملين, من باب الخداع الإستراتيجى، تمهيدا لاجرائه تغييرات جوهرية لإعادة صياغة التركيبة الداخلية لنظامه، فضلا عن هدف آخر خارجى يتمثل فى نقل قطاع من قواته إلى حليفته بيلاروس، التى تمكنت بمفردها، انهاء هذا التمرد الوجيز, وهو ما يعنى أن بوتين صار قاب قوسين ليس فقط من بولندا ولاتفيا، بل من الدول الأوروبية كافة، ليصبح فى موقف أقوى تحسبا لصد أى هجوم محتمل يقوم به الناتو, على خلفية الحرب فى أوكرانيا، وكأنه نوع من إعادة نشر القوات الذى تعرفه جميع الحروب، أثناء سير المعارك.

وربما ما عزز من هذا السيناريو هو تزايد الحديث عن احتمالات لجوء بريجوجين إلى نفس البلد كمنفى اختيارى. ورغم ذلك فهذا ليس إلا جانبا واحدا من الصورة، يحتمل الصواب أو الخطأ, لأنه قائم على تكهنات دون أدلة دامغة عليها فبالتزامن انطلقت شائعات مضادة تدحض هذه الفرضية وتتحدث عن أنه ونائبه قيد الاعتقال, بعدما صرح بوتين بأن ما قامت به فاجنر هو «طعنة فى الظهر» , رافضا الخضوع لابتزاز هذا التمرد المسلح, صحيح أنه تم نفى تلك الشائعات من الناحية الرسمية, ولكنها تظل دلالة على وجود جوانب أخرى للصورة, قد تكون مخفية, خاصة أنه بحكم الطبيعة المغلقة للنظام الروسى يصعب معرفة ما يدور فى الكواليس, ودائما ما يثور التناقض بين ما يعلن عنه وهو قليل, وما لا يعلن عنه وهو الأكثر, والمعنى المستخلص هنا.

أن كل السيناريوهات تبقى مطروحة على طاولة البحث, فهل قائد قوات فاجنر هو بطل يتم توظيفه من قبل السلطة النظامية, أم هو على العكس خائن لهذه السلطة التى أوجدته ودعمته, ويتعاون مع معارضيها لإثارة بلبلة داخلية ربما تتحول إلى حرب أهلية؟ أم أن هناك سيناريو ثالثا؟ كانت مبررات بريجوجين فى الإقدام على ما أقدم عليه, هى زعمه أن الجيش الروسى قصف معسكراته فى أوكرانيا من الخطوط الخلفية, ما أسفر عن مقتل عدد هائل من مقاتليه, لكن الحقيقة أن هذه المزاعم لم تكن إلا حلقة فى نزاعه الممتد مع وزارة الدفاع الروسية, فقد سبق أن اتهم وزيرها بامتناعه عن تزويد مجموعته بالذخيرة المطلوبة لدعم عملياتها العسكرية على الأراضى الأوكرانية, كما رفض بدوره طلبا يقضى بالزام مقاتليه توقيع عقود عمل مع الوزارة مباشرة, مع تقديمها عروضا مالية مغرية, ووعد بالحصانة القانونية حال ثبوت ضلوع عناصرها فى جرائم حرب, لذا تبادلا الانتقادات الحادة, فقيادة الجيش ترى أن سطوة قوات فاجنر وهى من المرتزقة, أصبحت تشكل تحديا للقوات المسلحة الرسمية وسعت لضمها إليها, بينما وصل الطموح السياسى للطرف الآخر إلى مناداته الروس وعناصر من الجيش للانضمام إلى مجموعته التى تضم 25 ألف مقاتل حسب تقديره, واستنادا إلى مساهمته الكبيرة فى حسم الكثير من المعارك التى أخفق الجيش فى الانتصار فيها بأوكرانيا, وكان آخرها معركة مدينة باخموت والاستيلاء عليها.

فى هذا السياق, فإن توقيت التمرد لم يأت مصادفة, إذ جاء مع بدايات الهجوم الأوكرانى المضاد الذى سُمى بهجوم الربيع, إلا أن تقارير أظهرت قصورا فى كفاءة الجيش الروسى، وتململا وعدم رضا بين أوساط الرأى العام حول استمرار الحرب, وبعبارة أوضح, محاولة استغلال لحظة ضعف للنظام للتفاوض معه وصولا إلى حلول وسط ترضى طموحات زعيم هذه المجموعة. والواقع أن تجربة فاجنر كانت محفوفة بالمخاطر منذ تأسيسها, ومثلت تحديا كبيرا للدولة والنظام فى موسكو الذى أنشأها عام 2014 عقب ضمه لشبه جزيرة القرم, باعتبارها شركة أمنية وعسكرية خاصة, تقوم بمهام قتالية حسب الطلب, وتجند عناصرها من المرتزقة, فى حين عدها الكثيرون جماعة عسكرية شبه رسمية خاضعة للمخابرات الروسية, وقد ضمت فى البداية ألف مقاتل ثم تضاعفت أعدادها إلى ما يزيد على العشرين ألف عضو فى أوكرانيا وحدها, وتمتعت بمساحة واسعة من حرية الحركة, مستفيدة من وضعها الغامض الذى يفصلها نسبيا عن الحكومة, وامتد نشاطها إلى بقع جغرافية كان يصعب على الجيش النظامى الوجود فيها بصورة صريحة علنية, كمناطق مثل ليبيا وافريقيا الوسطى ومدغشقر ومالى إثر الانقلاب العسكرى الذى تعرضت له مؤخرا، وانسحاب القوات الفرنسية منها، وأخيرا دورها المعروف والمؤثر فى الحرب الأوكرانية.

لكن كل هذه الخدمات المهمة التى قدمتها للنظام الروسى فى أكثر من مكان فى العالم, لم تكن دون ثمن, فلم تعد تقنع بدورها فى الظل, وسعت للحصول على مزيد من المكتسبات، شأنها فى ذلك شأن جميع الميليشيات المسلحة التى تؤسسها بعض الدول لخوض حروب بالوكالة عنها, بغية توسيع نفوذها وتعزيز مكانتها اقليميا ودوليا, مثال ميليشيات حزب الله فى لبنان، والحشد الشعبى فى العراق وقوات الحوثى فى اليمن، وكذلك قوات الدعم السريع فى السودان، وإن تباينت ظروف كل حالة عن الأخرى، وأيضا فى مدى تأثيرها على النظام الذى ينشئها, ولكن المشترك فى معظم التجارب, أنها قد تخرج عن السيطرة, لأنها فى الغالب تتبنى أجندة خاصة بها خارجيا, أما على مستوى الداخل فإن وجود قوة عسكرية موازية لمؤسسات الدولة ولجيشها النظامى يعكس أزمة حقيقية مرشحة، لأن تنفجر فى أى وقت، وربما هذا هو السيناريو الواقعى لتفسير تمرد فاجنر.

نقلاًُ عن الاهرام

حول الموقع

سام برس