بقلم/ مصطفى السعيد
جاءت زيارة هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق إلى الصين لتزيد من علامات الاستفهام حول السياسة الأمريكية تجاه الصين، فالرجل تجاوز المائة عام، ولا يشغل أى منصب سياسى، فلماذا الاستعانة به فى هذا التوقيت؟ والمرجح أن فشل زيارة وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكين إلى بكين فى 18 يونيو الماضى، والتى بدلا من تخفيف حدة التوتر، والسعى لترطيب الأجواء مع الصين، أعلن بلينكين أنه يشاطر الرئيس بايدن فى رأيه تجاه الرئيس الصينى، ومثل هذه التصريحات ليست معهودة فى السلوك الدبلوماسى، وتكشف عن مدى حدة الأزمة التى بلغتها العلاقات الأمريكية الصينية، ثم جاءت زيارة وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين، حاولت فيها ترطيب الأجواء بكثرة الانحناء لكل من تقابله من المسئولين الصينيين لدرجة أثارت الدهشة، ولم تحقق يلين أكثر مما حققه بلينكن، لكن واشنطن كانت قلقة من الردود المقتضبة والحادة التى عاد بها بلينكن ويلين، والتى لا تكشف لواشنطن شيئا عن النوايا الصينية، سواء المتعلقة بالحدود التى يمكن أن يصل إليها التعاون الصينى مع روسيا، أو الحرب التجارية التى يصعب أن تمضى فيها الولايات المتحدة، لأنها لا تأتى بنتائج إيجابية، وكان الرفض الصينى لأى اتصالات عسكرية متبادلة الأكثر إثارة للقلق، وكانت وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» ترغب فى تشغيل أى خطوط اتصال، لتمنع على الأقل احتمال تصادم بين القوات الأمريكية والصينية التى لا تكف عن الحركة حول جزيرة تايوان وبحر الصين، ولم ينتزع بلينكن أى وعد صينى بعدم دعم روسيا فى أى مجال، كما لم تنتزع يلين وعدا صينيا باستمرار شراء أذون الخزانة الأمريكية أو على الأقل التوقف عن التخلص منها، بل لم تصل إلى يقين حول الموقف الصينى من الدولار الأمريكى، وما إذا كانت تعتزم مع دول البريكس إطلاق عملة جديدة أم الاكتفاء بالتبادل بالعملات المحلية، وجعل اليوان الصينى الذهبى عملة مرجعية. ولم تجد الإدارة الأمريكية مفرا من إرسال كيسنجر، حيث كان مدخله موفقا بأن أكد ضرورة تمسك واشنطن بسياسة الصين الواحدة، وهو ما تود أن تسمعه الصين، التى يعرف كيسنجر حساسية قضية تايوان بالنسبة لها.

وليس من الصعب أن نتوقع ما قاله كيسنجر عن أهمية الحوار بين القوتين الكبريين، وتشابك المصالح، وأضرار الصدام بينهما، فهو يردد هذا الكلام كثيرا فى محاضراته ولقاءاته، ويحذر دوما من أن تؤدى السياسة الأمريكية إلى تقارب الصين مع روسيا، لأن تحالفا من هذا النوع سيكون كارثة على الولايات المتحدة، لكن ما قاله كيسنجر كان قد تخطاه الزمن، وتحول التقارب الصينى الروسى إلى ما هو أقوى من التحالف، وتعمقت الثقة بينهما إلى حد لم يكن يصدقه، فقد تمكنت حملات العقوبات واستهداف الدولتين الكبريين إلى تآكل الخلافات بينهما، وذوبان التنافس التاريخى أمام حرب يواجهانها معا «ظهرا لظهر» حسب التعبير الصينى عن قوة العلاقات الصينية الروسية، بل قدمت الولايات المتحدة وأوروبا هدية إلى الدولتين، فكانت العقوبات الاقتصادية دافعا لتكامل الاقتصاد الصينى الروسى، فكل ما تحتاجه الصين من غاز ونفط وحبوب ومعادن موجود لدى روسيا، وعبر وسائل نقل آمنة، وكل ما تحتاجه روسيا من أوروبا والولايات المتحدة تنتجه الصين التى أصبحت مصنع العالم، والناجحة فى سباقها التكنولوجى مع الغرب، وبعد لقاءات كيسنجر العديدة مع الرئيس الصينى شى بينج وفريقه لم يكن لدى كيسنجر ما يقدمه للصين بحكم أنه لا يشغل أى منصب، وكذلك لم يتمكن من انتزاع أى وعود صينية، لأنه أيضا لا يشغل أى منصب، ولهذا انتهى الكلام كمجرد كلام، حتى عندما أراد أن تفتح الصين خطوط الحوار، كان الجواب، عندما نرى سلوكا من الولايات المتحدة يشجع على الحوار، أو على الأقل أن تتوقف عن الاستفزاز، ليعود كيسنجر بلا شيء محدد، وهو الذى اعتاد طوال حياته المهنية الطويلة أن يحقق شيئا ما، ولا يعود خاوى الوفاض، لكن زمن كيسنجر هذا قد مضى، ولم تعد الصين كما كانت فى سبعينيات القرن الماضى، ولا حتى ثمانينياته وتسعينياته، كما لم تعد الولايات المتحدة كما كانت خلال تلك العقود الذهبية، وهى الآن تناطح من أجل وقف عجلة التاريخ، الذى لا يمكن أن يتوقف، ولا حتى أن يبطئ خطواته، فكانت رحلة كيسنجر مدهشة لأنه رأى «صين» جديدة وعالما جديدا قد تغير، فهو من نسج خطة إبعاد الصين عن الاتحاد السوفيتى، التى كان يراها ضرورية للغاية حتى تتمكن الولايات المتحدة من احتواء الإتحاد السوفييتى، لكنه لم يتخيل أن الصين ستصبح المعضلة الكبرى أمام الولايات المتحدة، وأنها من يفوز فى السباق.

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس