بقلم/ الياس حرفوش
ليس النظامُ الإيراني أولَ الساعين لاستغلال قضية فلسطين لمصالحه الإقليمية ولتصفية حساباته وتعزيز نفوذه في المنطقة ولن يكونَ الأخير.
هذه القضية العادلة كانت دائماً ضحية الساعين لاستثمارها في كل مجال ولكل حساب. أنظمة عربية وصفت نفسها بـ«القومية» وأحزاب وتنظيمات اعتبرت نفسها «تقدمية»، كلها كان شعار فلسطين في رأس برامجها، فيما كان هدفها يسعى إلى اتجاه آخر.

لم يكن مستغرباً أن يعلن «الحرس الثوري» أن «طوفان الأقصى» كان انتقاماً من إسرائيل لاغتيال قاسم سليماني. ورغم الجدل الذي أثاره هذا الإعلان وسعي طهران لـ«لتصحيحه»، فالحقيقة هي أنَّ طهران كانت تبحث عن طريقة للانتقام ترضي مؤيديها في الداخل وأنصارها في المنطقة. ولم يكن سهلاً العثور على هدف للانتقام يعادل أهمية الرجل في الهرمية العسكرية الإيرانية. إلى أن جاءت عملية «حماس» في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وكأنها تلك الفرصة.

صحيح أن «الحرس الثوري» أسرع إلى تصحيح «سوء الفهم»، لكن الناطق باسم «الحرس» صحَّحه بما هو أسوأ، إذ قال إنَّ «نتائج» عملية «طوفان الأقصى» هي جزء من الانتقام لاغتيال سليماني. غير أنَّ هذه النتائج التي تنظر إليها طهران بإيجابية، وترى أنها ألحقت الضرر بهيبة إسرائيل وضربت في الصميم بشعورها بالأمن وراء حدودها، كانت كارثة بشرية على سكان غزة. لذلك أحسنت «حماس» بالإسراع في تأكيد رفضها توظيف عملية 7 أكتوبر ودماء آلاف الضحايا الذين سقطوا بنتيجتها في خدمة أهداف إيران ومشروعها. وكان رد الحركة بالغ الشجاعة بالنظر إلى العلاقة الوثيقة المعروفة التي تربطها بطهران. فقد شعرت بأن محاولة طهران الهيمنة على أهداف تلك العملية واستغلالها بهذه الطريقة سوف تؤدي إلى ردود فعل بالغة السلبية ضد «حماس» في الشارع الفلسطيني، الذي سينظر إلى الضحايا والدمار وحالة البؤس التي انتهى إليها قطاع غزة، فوق بؤسه الموروث منذ تهجير سكان القطاع من أرضهم وبيوتهم منذ عام 1948، على أنها الفاتورة التي تسددها «حماس» للنظام الإيراني، بدل أن تكون في سبيل حماية المسجد الأقصى والدفاع عن حقوق الفلسطينيين.

منذ الإعلان عن عملية 7 أكتوبر، سعت طهران والحركات العاملة تحت رعايتها في المنطقة إلى التبرؤ من علاقتها بالتخطيط لتلك العملية. الأمين العام لـ«حزب الله» سارع إلى التأكيد بأنه فوجئ بالعملية وسمع بها مثلما سمع الجميع يوم وقوعها، ومثل نصر الله، نفى الحوثيون في اليمن و«كتائب حزب الله» وسائر التنظيمات الموالية لإيران في العراق علمهم المسبق أو رغبتهم في إعلان المسؤولية عن قرار «الطوفان» الذي فتح نار القتل والدمار على سكان غزة.

لكن توسع مشاركة هذه التنظيمات في الحرب تحت شعار «وحدة الساحات»، وإعلان إسرائيل أنها تقاتل على 7 جبهات عدّدها وزير الدفاع يواف غالانت (غزة ولبنان وسوريا والضفة الغربية والعراق واليمن وإيران) يضعان إيران في موقع المواجهة بالواسطة مع إسرائيل، من دون حرب معلنة بين الجهتين. مواجهة تجري بتسليح وتمويل إيرانيين، فيما الذيول التي تترتب عليها تقع على أهل الأرض وضحاياها، أي على الفلسطينيين، فيما تسعى طهران إلى تأكيد حرصها على «الاستقرار» والتهدئة ومنع الانزلاق إلى حرب إقليمية واسعة النطاق.

غير أن إيران، كما قلت سابقاً، ليست الدولة الوحيدة في المنطقة التي سعت للاستثمار في قضية فلسطين. فالقضية عادلة والاستثمار فيها يضمن كسب الشعبوية وحشد الجماهير. ومنذ أعلنت الدول العربية أن قضية فلسطين هي «قضيتها الأولى» فتحت الباب لسوق المزايدات وللتنافس على «أبوتها»، رغم كثرة «الأبوات» الفلسطينيين من قادة المقاومة عند انطلاقتها. ومنذ الزمن الناصري وصولاً إلى الحكم البعثي في سوريا والعراق، كانت قضية فلسطين هي الشعار الصالح للتسويق في كل المغامرات. يغزو صدام حسين الكويت بحجة الدفاع عن فلسطين، وتهيمن قوات حافظ الأسد على لبنان لحماية المقاومة الفلسطينية. ولم يكن الفلسطينيون دائماً أبرياء من هذه المقايضة. فقد كانوا يدفعون الثمن علاقات سيئة مع حكومات عربية، وغرقاً في الصراعات الداخلية التي تأخذهم بعيداً عن فلسطين، كما حصل في الأردن عام 1970 وتكرر في لبنان في حربه الأهلية، التي تحولت خلالها قضية فلسطين إلى ورقة صالحة للاستخدام والاستغلال في الصراع اللبناني الداخلي.

وفي حساب النتائج لم تحقق متاجرة الأنظمة العربية بقضية فلسطين نتائج باهرة لمصلحة الفلسطينيين. منذ مشاركة الدول العربية في حربها الأولى ضد قيام إسرائيل سنة 1948 إلى الهزيمة المدوية في حرب 1967 التي سعت اللغة العربية إلى التخفيف من وقعها واعتبارها مجرد «نكسة»، كان الفلسطينيون هم الضحايا والمساحات المحتلة من أرضهم تتَّسع حرباً بعد حرب.

والحقيقة أن الظروف الفلسطينية الصعبة التي أحاطت بنشأة المقاومة الفلسطينية، من غير أرض تقف عليها أو دعم مادي أو سياسي تسند ظهرها إليه، لم يترك لها الكثير من الخيارات، مما حولها إلى ورقة صالحة للاستغلال، وفتح شهية أنظمة «الصمود والتصدي» على الاستفادة منها. وعندما أدرك ياسر عرفات أهمية «القرار الفلسطيني المستقل» وذهب باتجاه مدريد وأوسلو بحثاً عن مخارج وعن موطئ قدم على أرض فلسطين، كان له بعض الأنظمة العربية بمرصاد «التخوين»، وكان نتنياهو على الجانب الآخر يخطط لضربته الكبرى التي قضت على إسحق رابين، وأعادت الصراع إلى حلبة المواجهة الدموية التي تستمر فصولها على مسرح المجازر المتوحشة التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة.
نقلاً عن الشرق الاوسط

حول الموقع

سام برس