سام برس
بقلم / محمد نجيب هاني
يأتي صوت الشاعر التونسي لطفي زكري من تخوم الجنوب، من مدينة توزر ذات الذاكرة الملتهبة بالشعر والجمال والواحات..
شاعرٌ اختار أن يجعل من الكتابة مسرحًا لمساءلة الذات، واستنطاق القلق الإنساني والانفتاح على التجربة الشعرية باعتبارها بحثًا عن الحرية والانعتاق من قيود الواقع.
من خلال قصائده المنشورة في الصحف والنشريات التونسية والعربية، وصولًا إلى مجموعته الشعرية "رسائل مهربة" (الصادرة مؤخرًا) يتبدى زكري كصوت متفرد، يكتب بجرأة وجدانية وبأسلوب مشبع بالصورة والمجاز محمولًا على وعي شعري حديث يراوح بين قصيدة النثر ورؤية سريالية تنفذ إلى العمق..
قلق الوجود والبحث عن المعنى
في قصيدة "في رأسي قطارات تجري مسرعة" نلمح شاعرًا مسكونًا بالتيه واللاجدوى:
"لا نَصّ ليكتبني / لا وصف ليرسمني / لا طِفل ليُرشدني
القصيدة تنفتح على صور متشابكة بين القلق والمصير، بين الأقدار العابثة وبين رغبة الشاعر في القبض على لحظة المعنى. يتجلى هنا ما يمكن تسميته بـشعر الاغتراب الداخلي، حيث يتحول النص إلى مساحة للمواجهة مع الفراغ والعدم.
قصيدة العاطفة والوجدان
في قصيدة "لا امرأة غيرك سيدتي" يظهر زكري مخلصًا لتجربة الحب بوصفها قدرًا وجوديًا. المرأة في نصه ليست مجرد ذات، بل تتحول إلى وطن بديل، إلى فضاء جامع يعيد للشاعر إنسانيته ويحرره من قيود النسيان. نقرأ:
"لا إمرأة غيرك تركل باب الليل / و تدخل كل شوارع روحي بلا استئذان"
الحب هنا هو فعل اقتحام، هو خلاص فردي يوازي الخلاص الجمعي، وصدى لتجربة وجدانية لا تخلو من التمرد.
بين الرثاء والانكسار
في "الرسالة الأخيرة" نواجه نصًا متخمًا بالحنين والرثاء والوداع، حيث تتجلى تجربة الانفصال كجرح عميق. لكنه رثاء لا ينغلق على البكاء، بل يستبطن جمالية الفقد، عبر صور دافئة:
"شكرا لبائع الورد / و لزهرة الأقحوان / و لذلك الوقت المستفز / كان ينتظر النهايات"
هنا يتحول النص إلى مساحة اعتراف وامتنان، كأنه يعيد صياغة الوجع في هيئة جمال.
شعرية التمرد والاحتجاج
في نص "أنا رجل غير ديمقراطي"، يتقمص الشاعر لغةً ساخرةً ومتمرّدة، تشتبك مع المعجم السياسي والاجتماعي، لتحوّله إلى استعارة عن الحب والاحتلال العاطفي. يقول:
"أتعاطى حبوب منع الشعر بلا جدوى / أتماثل للفوضى / أعبث بطلاسم جمالك بطريقة بدائية"
النص هنا يستعير مفردات الحرب والاستعمار والتفاوض، ليعيد توظيفها شعريًا في سياق العشق، بما يمنح القصيدة جرأة أسلوبية ودلالية.
استبطان الداخل وتفكيك الخراب
أما في قصيدة "أعداد المحتجزين داخل رأسي كثر..." فنجد شاعرًا يفتش في ذاته كأنها خرائب ممتلئة بالذكريات والأحلام المحطمة..
النص يستعير لغة اليومي والمهمل (مذياع قديم، صندوق صدئ، عمال نظافة...) ليقيم منها استعارات عن خراب الداخل، في شعرية تتقاطع مع كتابة الاعتراف الوجودي.
على سبيل الخاتمة..
إن تجربة لطفي زكري الشعرية تمثل مزيجًا بين الصدق الوجداني والجرأة الأسلوبية.. فهو شاعر يكتب بوعي حديث لا يتقيد بالأشكال التقليدية بل ينحت قصيدته من القلق والحب والانكسار والتمرد. ولعل أهم ما يميز صوته أنه يلتقط اليومي والهامشي ليحيله إلى مادة شعرية، ويمنح القارئ نصوصًا تحتفظ بحرارة البدايات، لكنها تبشّر في الآن ذاته بميلاد شاعر قادر على أن يوسع أفق القصيدة التونسية والعربية.

حول الموقع

سام برس