بقلم/ محمود كامل الكومي
في ذاكرة السينما المصرية، يبقى فيلم "ناصر ٥٦" شاهدًا على لحظة فارقة أعادت تشكيل الوعي الوطني. لم يكن فيلمًا عابرًا، بل عملًا سينمائيًا نادرًا اجتمع فيه مخرج يعرف كيف يصنع الملحمة، محمد فاضل، مع ممثل عبقري اسمه أحمد زكي، ليجسدا لحظة تأميم القناة بروح تُسمعُ في الخلفية وكأنها نبض الشعب نفسه.
كان الفيلم ــ بحق ــ عنوانًا لأفلام الأساطير؛ تلك الأعمال التي تلتقط من التاريخ وهجه لا ظله.
اليوم، يأتي فيلم "الست" ليحاول مقاربة قامةٍ لا يُمكن لأي شريطٍ سينمائيٍ أن يُحيط بها: أم كلثوم. المرأة التي لم تكن فنانة تُصنع، بل مدرسة تصنع الآخرين. كانت، عبر تاريخها الطويل، تُقيم مسافة واضحة بينها وبين "صنايعية الفن" ــ كما كانت تسميهم ــ أولئك الذين يرون الفن حرفة، بينما كانت تراه رسالة وطقسًا من طقوس الروح.
يكفي أن نذكر أن رياض السنباطي هو الوحيد الذي أثّر فيها أمّا غيره، فكانت هي من تؤثر فيهم، ترفعهم إلى مقامات لا تطالها أجيال.
غير أن فيلم "الست" جاء ليهدم ما كان ينبغي أن يرفعه.
هدمٌ لم يطل العمل وحده، بل امتد إلى بطلته وكاتب سيناريوه ومخرجه، وكأن الفيلم لم يُصنع لتخليد الأسطورة، بل لتقزيمها. أداءٌ باهتٌ، رؤيةٌ ضبابية، ومقاربةٌ لا تمتّ إلى جوهر أم كلثوم بصلة. وكأنّ الفريق الإبداعي قد أصرّ على أن يخوض مغامرة أكبر من قدراته، فخرج الفيلم بلا روح، وبلا ملامح، وبلا أدنى احترام لذاكرة فنية تحتاج من يتعامل معها بقداسة، لا بخفة.
وفي الخلفية، يطلّ شبح "شوال الرز" الذي اعتاد أن يكدّ في تشويه رموز مصر الثقافية والتنويرية..وقد سبق له الصرف لتمجيد الغانية والمرتدة عن الأسلام والهاربة مع بنتيها - بعد أن استولت على مجوهرات الشعب -إلى أمريكا ( نازلي ام الملك فاروق وطليقة الملك فؤاد). ..ففرض على طاقم الفيلم أن تزووم الكاميرا .. على نازلي من جديد؛ كمحاولة دنيئة لخلخلة حجارة الهرم الرابع أم كلثوم.
لم يعد الأمر سرًا ثمة محاولات ممنهجة للنيل من رموز الفن العربي، وإعادة قراءة التاريخ من بوابة المال السياسي والإعلام الموجّه.
وفي هذا السياق، يأتي الفيلم وكأنه جزء من حملة لإعادة إنتاج الوعي بشكل متدنٍّ، يبتعد عن حقيقة الدور الذي لعبته مصر في صناعة التنوير وحماية الذائقة الفنية في المنطقة.
لقد كان المنتظر من صناع فيلم "الست" أن يقدموا عملاً يليق بالأسطورة، لكنهم ــ للأسف ــ قدّموا عملًا لا يليق إلا بالنسيان.
أم كلثوم أعظم من أن يحتويها فيلم ضعيف، وأكبر من أن تقترب منها أداة فنية بلا وعي. إنها مدرسة كاملة، تاريخٌ يتنفس، وصوتٌ يختصر قرنًا من الموهبة.
أما الفيلم، فقد صار ــ للأسف ــ شاهدًا على أزمة أكبر: أزمة الوعي الفني في زمن يتقدم فيه التسطيح، بينما تتراجع القامات.
*كاتب ومحامي مصري



























