بقلم / عادل حويس
لا تزال العلاقة بين الفرد العربي والكتاب علاقة محفوفة بالتناقضات، تشبه صراعا صامتا بين إرث ثقافي عريق يمجد المعرفة وحاضر مغاير يزداد فيه الهوى بين القارئ والحرف.
فبينما نحتفظ في ذاكرتنا الجمعية بصورة "أمة اقرأ" المؤسسة على أول آية نزلت من السماء، نعيش واقعاً ثقافياً تصفه التقارير بـ "الأمة التي لا تقرأ". هذا التناقض ليس مجرد إحصائية عابرة بل هو مؤشر على أزمة هوية أعمق تهدد بتآكل رأس المال الفكري والقدرة على المشاركة الحضارية الفاعلة.
جذور هذه الفجوة تعود إلى عوامل مركبة ومعقدة. فالتعليم التقليدي بتركيزه على التلقين والحفظ نجح في كثير من الأحيان في تحويل الكتاب من نافذة على العالم إلى أداة للتقييم والامتحان مما قتل روح الاستكشاف والمتعة في القراءة. كما أن صناعة النشر في العالم العربي تواجه تحديات هيكلية من الرقابة المتقلبة إلى توزيع غير فعال وأسعار مرتفعة نسبياً مما يحول دون وصول الكتاب بسهولة إلى كل مهتم. ولا يمكن إغفال تأثير العاصفة الرقمية التي جعلت من السهل جداً انغماس الفرد في محتوى سريع وسطحي يستجيب لدوافع الإشباع الفوري على حساب القراءة المتأنية التي تتطلب جهداً ذهنياً وصبراً.
تداعيات هذا الواقع لا تقتصر على المجال الثقافي الضيق. فضعف القراءة يؤدي إلى ضعف في القدرة على التفكير النقدي وفهم التعقيدات وتمييز المعلومات من الشائعات. مجتمعيا ينتج عن ذلك رأي عام أسهل للتوجيه وأقل قدرة على المبادرة الفكرية. على مستوى الأمة يعني تراجع القراءة انكفاء عن إنتاج المعرفة والمساهمة في الحوار الإنساني الكبير واستمراراً في موقع المستهلك للمعارف والأفكار الوافدة. إنها قضية أمن قومي بامتياز تتصل بقدرة الأمة على فهم نفسها وعصرها وصياغة مستقبلها بوعي.
رغم ذلك تظهر هنا وهناك إشارات على مقاومة هذا التراجع. فمبادرات مثل "تحدي القراءة العربي" ومشاريع دعم النشر وانتشار النوادي والمقاهي الثقافية وبروز مجتمع كتاب إلكتروني ناشئ، كلها محاولات لتجسير الهوة.
كما يلاحظ اهتمام متزايد من الشباب بالكتب عبر منصات التواصل الاجتماعي حيث يجد الكتاب صوتاً جديداً بلغة العصر. هذه البوادر، رغم أنها لم تحدث التحول المنشود بعد تثبت أن الجمرة لا تزال تحت الرماد وأن الشغف بالمعرفة لم ينطفئ تماماً.
إن معالجة هذا الإشكال التاريخي تتطلب نهجاً متكاملاً يبدأ من إعادة الاعتبار لمتعة القراءة في مرحلة الطفولة داخل الأسرة وفي المدرسة بعيداً عن أي إكراه. كما يحتاج إلى سياسات ثقافية جادة تدعم المؤلف والناشر وتجعل الكتاب في متناول الجميع عبر شبكة مكتبات عامة حية ومحفزة ودعم مادي للمطبوعات.
لكن التحدي الأكبر يبقى في إعادة صياغة الخطاب حول القراءة نفسها لتصبح ممارسة يومية ضرورية للتوازن الذهني والفكري وشكلاً من أشكال التحرر والاكتشاف الذاتي وليس نشاطاً نخبوياً أو واجباً مدرسياً.
في النهاية فإن مصالحة "أمة اقرأ" مع فعل القراءة ليست ترفاً. إنها شرط أساسي لاستعادة دور فاعل في العالم. فالكتب ليست مجرد حبر على ورق بل هي مستودعات للتجربة الإنسانية وأدوات لشحذ العقل وجسور نحو الآخر. استعادة عادة القراءة هي في جوهرها عملية إعادة بناء للعلاقة مع الذات أولاً ومع العالم ثانياً.
وهي رحلة تبدأ بخطوة بسيطة: إيقاف الضجيج والإمساك بكتاب والبدء في تقليب صفحاته علنا نجد فيها جزءاً منا وندرك من خلالها أين نحن من أمر "اقرأ" الذي أسس لوعينا الأول.


























