بقلم/ د. أحمد سيد أحمد
لم تعد الأيديولوجيا هى الحاكمة للعلاقات الدولية، كما كانت إبان فترة الحرب الباردة، وإنما أصبح الاقتصاد والمصالح هى المحدد الأساسى لعلاقات الدول وتحالفاتها وتوجهاتها الخارجية.

وفى هذا السياق تأتى زيارات المسئولين الأوروبيين إلى الصين فى سياق البحث عن المصالح وإيجاد حالة من التوازن فى العلاقات بين أمريكا والصين.

فقد زار الرئيس الفرنسى ماكرون ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين الصين الأسبوع الماضى، وأكد الرئيس ماكرون أنه من الخطأ لأوروبا التبعية للولايات المتحدة تجاه الصين خاصة فى مسألة تايوان، وهو ما يعكس مساعى أوروبية لتبنى سياسة خارجية مستقلة نسبيا عن الولايات المتحدة خاصة تجاه الخصوم الإستراتيجيين لها مثل روسيا والصين. هذا الاتجاه تقوده فرنسا بالأساس، حيث ترى أن التماهى مع المواقف والسياسات الأمريكية تجاه كل من روسيا والصين قد أضر بالمصالح الأوروبية، فقد سارت أوروبا خلف أمريكا فى تبنى سياسة العقوبات وأقصى الضغوط على روسيا فى أعقاب تدخلها العسكرى فى أوكرانيا، لحماية ما تعتبره أمنها القومى بسبب إصرار أمريكا وحلف الناتو على التوسع شرقا وضم أوكرانيا للحلف ونشر منظومات صواريخ حديثة فى أوروبا الشرقية على الحدود الروسية. ورغم أن فرنسا حاولت تفادى الحرب الروسية ـ الأوكرانية لكنها فشلت مع ألمانيا فى حلها بسبب عدم تقديم أمريكا ضمانات لروسيا بشأن أمنها القومى. ولذلك دفعت أوروبا ثمنا باهظا لتلك الحرب، حيث تعد الخاسر والمتضرر الأكبر منها بسبب ارتداد العقوبات الغربية على روسيا فى الاتجاه المعاكس، خاصة فى قطاع النفط والغاز، وهو ما أدى لارتفاع أسعار الطاقة فى أوروبا وارتفاع معدلات التضخم وأسعار السلع الغذائية بشكل غير مسبوق وتفاقم الأزمات الاقتصادية.

ولذلك لا تريد أوروبا بشكل عام وفرنسا بشكل خاص، تكرار تجربة أوكرانيا، فى تايوان وإشعال جبهة جديدة سوف تفاقم من معاناة الأوروبيين وأزماتهم الاقتصادية.

ومن هنا تبنى ماكرون وبعض القادة الأوروبيين، مفهوم الحياد أو الاستقلالية وعدم التماهى مع السياسات الأمريكية تجاه الصين، مثل دعم تايوان عسكريا وزيارات المسئولين الأمريكيين للجزيرة، والوجود العسكرى المكثف فى مضيق تايوان وبحر الصين الجنوبى، والتى تشكل استفزازا للصين وقد تدفعها للتدخل العسكرى فى الجزيرة إذا أعلنت استقلالها باعتبار أنها جزء أساسى من البر الصينى. كما أن أوروبا لا تعتبر الصين عدوًا أو خصمًا إستراتيجيًا، كما تعتبرها أمريكا، والتى تنص عليها إستراتيجية الأمن القومى الأمريكى، ومن ثم أوروبا ليست ملزمة بتنبى نفس السياسات الأمريكية وإنما عليها أن تبحث عن مصالحها أولا.

ويمكن القول إن الهرولة الأوروبية إلى الصين وتعزيز الشراكة الاقتصادية معها لا يمثل تمردا على أمريكا، بقدر ما هو سعى لتحقيق التوازن فى العلاقات بين الجانبين، خاصة أن لدى أوروبا مصالح اقتصادية وسياسية ضخمة مع كل من أمريكا والصين، فحجم التبادل التجارى بين أوروبا والصين يصل لـ912 مليار دولار، مقابل 807 مليارات دولار حجم التبادل التجارى بين أوروبا وأمريكا، وتعد الصين أكبر شريك تجارى لأوروبا.

ولذا من الصعب على أوروبا ان تضحى بحجم تجارتها وعلاقاتها الاقتصادية مع الصين، خاصة فرنسا التى تعد الشريك التجارى الأول للصين فى أوروبا، ويصل حجم التبادل التجارى بينهما لـ81 مليار دولار، كما أن فرنسا أول دولة تنشئ آلية مع الصين للتعاون بين الشركات فى كلا البلدين فى إطار مبادرة الحزام والطريق. وفى ظل الأزمات الاقتصادية العاصفة التى تواجه فرنسا والدول الأوروبية فإن التوجه شرقا نحو الصين يمثل مدخلا مهما للخروج من الأزمات الاقتصادية التى نجمت عن جائحة كورونا والحرب الروسية ـ الأوكرانية.

هذا التوجه الأوروبى نحو الصين يعكس مساعى أوروبا لترتيب أولوياتها وعلاقاتها ومكانها فى ظل النظام الدولى الجديد الذى يتشكل والذى يقوم على التعددية القطبية، وتتوافق أوروبا، خاصة فرنسا، مع الصين وروسيا فى أن النظام الدولى متعدد القطبية يعد أكثر استقرارا وتوازنا من نظام الأحادية القطبية بقيادة أمريكا والذى أدى لاضطراب العلاقات الدولية خلال العقود الثلاثة الماضية.

لكن الإشكالية الكبرى أمام أوروبا هى الانقسام، حيث لا توجد إستراتيجية أوروبية موحدة بشأن نمط وطبيعة العلاقة مع الصين، وكذلك الموقف من مسألة تايوان. ففى الوقت الذى تتبنى فيه فرنسا سياسة الحياد الإيجابى بشأن تايوان والتوازن فى العلاقات مع الصين، فإن دولًا أوروبية أخرى تتبنى مواقف متشددة تجاه الصين خاصة بريطانيا التى تتماهى مع المواقف الأمريكية، وهو ما برز فى تحالف «أوكوس» الذى يضم بريطانيا وأمريكا واستراليا، ويعد موجها للصين. كما أن هولندا فرضت حظرا لتصدير الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات إلى الصين عقب الحظر الأمريكى. إضافة إلى أن ألمانيا على لسان وزيرة خارجيتها تتبنى موقفا متشددا تجاه الصين فيما يتعلق بتايوان وترفض أى حلول أحادية بشأن الجزيرة. كذلك من الصعب على أوروبا أن تنخلع من العباءة الأمنية الأمريكية، خاصة حلف الناتو، والذى تعزز دوره بشكل كبير بعد الأزمة الأوكرانية، إضافة إلى تعثر مساعى تشكيل جيش أوروبى موحد.

وبالتالى التحدى الأكبر أمام فرنسا والدول الأوروبية هو إيجاد التوازن فى العلاقات مع كل من الصين وأمريكا دون أن تصطدم مع الأخيرة، وهو أمر صعب فى ظل التشابكات الكبيرة بين أوروبا وأمريكا فى إطار المعسكر الغربى.

نقلاً عن الاهرام

حول الموقع

سام برس