بقلم/د. أحمد قايد الصايدي
يقال إن أصل هذا المثل هو ما نطق به أحد المصارعين الرومانيين وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة في ساحة المصارعة ، التي كانت تقام لتسلية الناس ، لا سيما الطبقات المترفة منهم.

فبعد أن نال منه خصمه ووقع على الأرض مثخناً بجراحه القاتلة ، ألقى نظرة أخيرة على الجمهور من حوله ، الذي كان يهتف للمصارع المنتصر ، ويعبر بضحكات صاخبة تشق عنان السماء عن سروره بموت المصارع المهزوم ، ألقى عليه نظرة أخيرة ، وقال قولته ، التي ظلت تتردد عبر الزمان ، على ألسنة من يواجهون محنة ، تُضحك الآخرين وتجلب السرور إلى قلوبهم : شر البلية ما يُضحك.

تذكرت هذا القول، المنسوب إلى رجل يلفظ أنفاسه الأخيرة، والناس من حوله يعبرون عن سرورهم بما آلت إليه حاله، تذكرته وأنا أستمع إلى شرح لمشهد كنت أراقبه من بعيد، ولم أفهم خلفيته. طقم مسلح يترجل منه أفراد، ويتجهون إلى بعض المحال التجارية، وهم يلوحون بقبضاتهم ويرفعون أصواتهم مخاطبين أصحاب تلك المحال. ولتداخل أصواتهم لم أستطع أن أتبين ما كانوا يقولونه. ثم رأيت أصحاب تلك المحال ينقدونهم بعض المال، الذي لم أفهم لماذا يدفعونه، وما الذي سيحصلون عليه مقابل ما دفعوه.

شرح لي أحد المارة ما شاهدته ، وفك لي طلاسم المشهد:

لقد جاءت تلك الأطقم لتحيِّي بتلك الطريقة الودية ، أصحاب المحال ، الذين لم يتهيأوا لإظهار فرحهم بمولد الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم ، ولم يرفعوا الأعلام ويضعوا الزينات أمام محالهم ، تعبيراً عن فرحهم.

أما المال الذي انتزعته تلك الأطقم من أصحاب المحال ، استكمالاً لتلك التحية الودية ، فقد كان إما عقاباً لهم، لعدم إظهار فرحهم ، أو مساهمةً في إحياء المناسبة ومشاركةً في الفرح العام ، الذي يقام وسط أحزان ومعاناة وفقر وجوع وتشرد الشعب العظيم.

الشعب الذي يجب عليه أن يفرح بكل المناسبات الدينية والسياسية التي تقيمها الجهات الرسمية ، بل وأن يدفع بالتي هي أحسن، ليزداد فرحه في هذه المناسبات ، رغم سوء الحال وتراجع الحركة التجارية وتردي سعر العملة الوطنية وعدم صرف الرواتب والمعاشات، ورغم الضرائب والواجبات ومختلف الجبايات، إضافة إلى الرشاوى التي أصبحت تؤخذ عنوة ، وبالمكشوف ، وموجة الفقر التي طالت حتى أسراً ميسورة لم تعرف الفقر وذل الحاجة من قبل.

كان هذا الشرح الوافي كافياً لأن تحضر في ذهني صورة المصارع الروماني وهو ملقى على الأرض، معفر بالتراب، مضرج بدمه، مثخن بجراحه، يلفظ أنفاسه الأخيرة، والناس من حوله تهلل وتصفق وتضحك فرحاً بما آل إليه حاله، وبما تشاهده من ملهاة، هي في الواقع مأساة تُبكي ولا تُضحك. ولكن كما قال: شر البلية ما يُضحك.

بعد ذلك تمكنت من الحصول على تعميم كان قد وُزع على المؤسسات والشركات والمنشآت والمحال التجارية المختلفة، يخاطب أصحابها، مفتتحاً خطابه بآيتين قرآنيتين منتزعتين من سياقيهما القرآني. الآية الأولى (قل بفضل الله ورحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). والمقصود هنا (قل بفضل الله وبرحمته...إلخ، سورة يونس، الآية 58)، والآية الثانية (فالذين آمنوا وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون)، والمقصود هنا الآية (فالذين آمنوا به وعزروه...إلخ، سورة المائدة، الآية 157). ثم يبارك لهم قدوم المولد النبوي الشريف، ليصل إلى بيت القصيد، وهو، كما ورد في التعميم: "احتفالا بهذه المناسبة العظيمة تدعوكم قيادة مكتب الصناعة والتجارة بالأمانة وقيادة السلطة المحلية في المديرية وفرع مكتب الصناعة والتجارة بالمديرية بتركيب الزينة الضوئية والقماش والأعلام تعبيراً عن الفرحة والابتهاج بذكرى مولد الرسول الأعظم صلوات الله عليه وعلى آله".

ولم تكن تلك دعوة كريمة، يستجاب لها طوعاً، أو لا يستجاب، بل كانت كما اتضح من نزول الأطقم العسكرية، دعوة ملزمة واجبة التنفيذ، وعلى كل مكلف أن يستجيب لها، طوعاً أو كرهاً، ولكن بكل فرح وسرور. ودعوني أكن مجنوناً وسط هؤلاء العقلاء، فأزعم بأن الفرح عاطفة تلقائية، تغمر الروح وترتسم على الوجوه؟ فهل ثمة فرح حقيقي يمكن أن نراه مرتسماً على وجوه الناس هذه الأيام؟ وهل يمكن أن نعلق أفراحنا وأتراحنا حتى تأتينا توجيهات رسمية، تحدد متى نفرح ومتى نحزن، وتحدد الكيفية، التي نعبر بها عن أفراحنا وعن أحزاننا؟

نحن نعرف أن الاحتفالات التي تقام بمناسبات سياسية وبمناسبات دينية، وتكلف أموالاً طائلة، هي بمثابة رسائل يرسلها المحتفلون إلى الخارج الإقليمي والدولي، بالدرجة الأولى، وتدخل أيضاً في إطار التعبئة والتحشيد ورفع معنويات المقاتلين والمؤيدين. فهي جزء من حرب نفسية وإعلامية، تصاحب وتكمل الحرب في ساحات القتال، إلى هنا والأمر واضح. ولكن ألا يمكن في خضم المحنة التي نعيشها أن تدار هذه الحرب النفسية والإعلامية، دون إلحاق مزيد من المعاناة والأذى بالمواطنين؟ ثم أليس من الحكمة ومن مقتضيات التدين اقتصار التوظيف السياسي على المناسبات السياسية، وإبعاد المناسبات الدينية عن ذلك، والاحتفاء بها على النحو الذي كنا نحتفي بها من قبل؟

لقد كان عهدنا بالاحتفاء بالمولد النبوي، على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أنه كان يجري بصورة متواضعة، بعيدة عن التكلف، بسيطة بساطة صاحب المناسبة، متواضعة تواضعه، مفعمة بالخشوع والحب والفرح الطبيعي النابع من قلوب مؤمنة، لا من أوامر وتوجيهات رسمية. كان إحياء هذه المناسبة العظيمة يتم مساءً في طول اليمن وعرضه، في رحاب المساجد المشبعة بروحانية الإيمان. فيهلل المحتفون ويكبرون، ويلقي بعض العلماء مواعظ دينية، ويستعرضون بعضاً من سيرة الرسول الكريم، ويستخلصون الدروس والعبر من صبره وجهاده وتواضعه وسمو أخلاقه ورأفته بالناس، نعم، ورأفته بالناس، ثم ينصرفون.

فماذا جرى لنا اليوم، وما هذا الذي نشاهده ونعيشه؟ هل يمكن إزالة أحزاننا واستبدالها بالفرح، عنوة وبأوامر رسمية، ودون التوجه إلى وضع معالجات حقيقية وملموسة لمشكلاتنا المعيشية المستحكمة، التي تخنق مشاعر الفرح، في كل بيت وشارع ومدينة وقرية؟

اللهم إنا نعوذ بك من حزن يغور في أعماق النفوس ، ومن سخط يتراكم يوماً بعد يوم ، وينذر بعواقب يخشاها العقلاء.

حول الموقع

سام برس