سام برس
تحليل الدكتور حسن حسين الرصابي
في خضمّ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزة، وفي لحظة تبدو فيها الأطراف الإقليمية والدولية أقرب إلى التواطؤ في تصفية القضية، فجّرت موافقة حركة حماس على خطة الهدنة المقترحة مفاجأة مدوية. لم تكن هذه الموافقة مجرد قبول؛ بل كانت مناورة سياسية متقنة أعادت الكرة إلى ملعب الاحتلال وحلفائه، ووضعت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في زاوية حرجة.
كانت الضغوط الإسرائيلية والأمريكية تهدف إلى فرض شروط الاستسلام الكامل تحت غطاء "الهدنة"، لكن حماس، بذكاء، التقطت ورقة الإجماع الدولي والإقليمي على مسودة الاتفاق، وحوّلتها إلى مأزق سياسي للأطراف التي ترفض وقف الحرب أساسًا.
أولًا: المنطق الصلب في مواجهة "السلام المزيف"
لطالما أكد المنطق التحليلي، الذي لا يختلف عليه اثنان، أن الاستسلام للمطالب الإسرائيلية - حتى لو كان يشمل نزع السلاح والاعتراف بإسرائيل والترحيب بـ"خطة ترامب" (صفقة القرن) و"خطة غزة 2025م"- لن يؤدي إلى إنهاء الصراع أو إغلاق ملف الأسرى أو وقف الاستيطان، بل سيؤدي فقط إلى إكمال مخطط "إسرائيل الكبرى".
هنا يكمن لبّ الموقف الذي لم يتغير: إذا كانت نتيجة الاستسلام هي ذات نتيجة المقاومة، ولكن مع فقدان الكرامة والحقوق، فما الذي يدفع إلى القبول به؟ موافقة حماس الأخيرة على الورقة المعدّلة جاءت لتؤكد هذا المنطق، فهي لم ترفض الهدنة بل أيّدت المسودة التي أجمعت عليها الوسطاء، لتكشف بوضوح أن الرفض الحقيقي يكمن في تل أبيب، التي لم تكن جادّة في البداية إلا في استغلال المفاوضات كغطاء لاستكمال عمليتها العسكرية.
ثانيًا: قراءة في الأوراق: تداعيات الموافقة على خطة الهدنة
هل حماس لعبتها صحّ؟
نعم، إلى حد كبير. إن موافقة حماس على ورقة الهدنة تحقق لها عدة مكاسب استراتيجية وتكتيكية:
* نزع الغطاء الأخلاقي والدولي عن إسرائيل: أثبتت حماس للرأي العام العالمي، وفي مقدمته الولايات المتحدة، أنها الطرف الذي يسعى إلى إنهاء الحرب وإطلاق سراح الأسرى، بينما أظهرت إسرائيل في المقابل أنها الطرف المعيق بتمسّكها بمخططها الإباد والتوسّعي.
* خلق انقسام حاد في إسرائيل: وضعت الموافقة نتنياهو أمام خيارين أحلاهما مرّ: إما القبول بوقف إطلاق نار يطيح به في الداخل ويغضب شركاءه المتطرفين (بن غافير وسموتريتش)، أو رفض الخطة وتكديس الضغط الدولي عليه مع احتمالية فقدان الدعم الأمريكي في مجلس الأمن.
* تثبيت معادلة "الوجود" لا "الاستسلام": لم تأتِ موافقة حماس كاستسلام، بل جاءت بعد تعديلات تضمن المطالب الأساسية للمقاومة (الانسحاب الكامل ووقف إطلاق النار الدائم)، مما يعزّز موقفها التفاوضي على الساحة الإقليمية.
ثالثًا: انطباعات ترامب وإسرائيل والمستجدات الإقليمية والدولية
1. انطباعات دونالد ترامب:
من المرجّح أن يرى دونالد ترامب، عرّاب "صفقة القرن" والداعم الأكبر لـ"إسرائيل الكبرى"، في هذه الموافقة تهديدًا مباشرًا لخططه. سيشعر ترامب بأن المقاومة نجحت في إطالة أمد الصراع، الأمر الذي يضعف موقفه الداعم المطلق لإسرائيل ويُظهر فشل حلفائه (خاصة نتنياهو) في تحقيق "النصر المطلق" الذي وعدوا به. توقع أن يُصعّد ترامب من خطابه الداعم لإسرائيل والمنتقد للمفاوضات، بوصفه أي هدنة أو حل لا يصفّي حماس بالكامل بأنه "ضعف" أو "خيانة".
2. موقف إسرائيل (نتنياهو):
كان الردّ الإسرائيلي الأول على الموافقة هو التصعيد والاستمرار في العملية العسكرية، ما يؤكد أن هدفها ليس استعادة الأسرى بقدر ما هو تدمير البنية التحتية للمقاومة وتصفية القطاع بالكامل. نتنياهو يجد نفسه مضطرًا للاستمرار في الحرب ليحافظ على ائتلافه المتطرّف ولتجنّب المحاسبة على فشله في 7 أكتوبر، بغضّ النظر عن الثمن الإنساني والسياسي الدولي.
3. المستجدات العالمية: أسطول الحرية ومظاهرات الجامعات
تتكامل المناورة السياسية لحماس مع تصاعد الغضب العالمي؛ فحتى مع فشل محاولة "أسطول الصمود العالمي" في كسر الحصار البحري (واعتراض إسرائيل لجميع سفنه بما فيها سفينة "الضمير" في المياه الدولية)، إلا أن هذه التحركات، إلى جانب احتجاجات الجامعات العالمية (2025) التي تزداد عنفوانًا بمطالبتها بقطع العلاقات مع المؤسسات الإسرائيلية، تشكّل جبهة ضغط أخلاقية وإنسانية غير مسبوقة على الحكومات الغربية.
خاتمة: في رحاب معادلة الوجود
إن موافقة حماس على خطة الهدنة ليست نهاية المطاف، بل هي جولة جديدة في صراع الإرادات. لقد أعطت المقاومة الفرصة الأخيرة للسلام والهدوء، لتثبت أن العائق أمام إنهاء الإبادة هو التعنّت الإسرائيلي الذي يرفض أي حلّ لا يعني تصفية القضية بالكامل.
في مواجهة خطة استعمارية تهدف إلى التصفية الكاملة للقضية (من خطة ترامب إلى خطط غزة 2025)، يظلّ رفض المقاومة لنزع سلاحها هو الضمانة الوحيدة المتبقية لعدم إقامة "إسرائيل الكبرى" على أنقاض الأمة وحقوقها. فعلاً، الذين لم يمتلكوا الشجاعة لاتخاذ الموقف التاريخي الصحيح لا يملكون الحق في مطالبة من يدافع عن وجوده بالتراجع.

حول الموقع

سام برس