بقلم/ القاضي / حسن حسين الرصابي
في زمن ضجَّت فيه الأبصار ببريق السطحية، يأتي مقالنا ليأخذنا في رحلة تأمل، مستنيرًا بأبهى نور، نور القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ليُعرّفنا على أخطر "نظام" يهدد جودة الحياة: نظام التفاهة.
لقد أحدث كتاب الفيلسوف الكندي (آلان دونو) "نظام التفاهة" ضجة عالمية، كاشفًا كيف أن التفاهة لم تعد مجرد سلوك عابر، بل أضحت "عملة رائجة" تقتحم كل ميدان: الاقتصاد، السياسة، الفن، والإعلام، وتُغني التافهين على مرأى ومسمع من المنبهرين.
لكن ما أروع أن نعرض هذا المفهوم على الميزان الذي لا يخطئ: الوحي الإلهي!
التفاهة في ميزان اللغة والقرآن
في اللغة العربية، التفاهة تعني الانحدار والتردي من الكمال إلى النقص، ومن الجد إلى العبث. فالرجل التافه هو غير المتزن، والعمل التافه لا قيمة له. هي ببساطة: التقهقر من المعالي إلى السفاسف.
ولكن، متى وُلد هذا النظام الخبيث؟
القرآن الكريم يكشف لنا الجذور
إن زعيم التفاهة الأول في الوجود، هو إبليس اللعين، الذي بدأ ممارسته بتزيين الوهم لآدم وزوجه ليأكلا من الشجرة، مغريًا إياهما بالخلد والتحول الملائكي. التفاهة، بهذا المعنى، هي تسويق إبليس للأوهام والغرور الباطل.
يؤكد القرآن أن هذا التسويق الشيطاني مستمر إلى قيام الساعة:
* ﴿وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ... وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (النساء: 119-120).
* التفاهة هي "الباطل" الذي يُقابل "الحق"، وهي "اللهو" و"العبث" الذي يتنزه عنه الخالق سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ﴾ (الأنبياء: 16).
نماذج التفاهة التاريخية
فرعون: مثال لم يكن فرعون مجرد طاغية، بل كان تجسيدًا تاريخيًا لـ "نظام التفاهة" الذي يحل محل الحق!
لقد تجلى نظام تفاهته في التعالي والتمييز الباطل بين خلق الله، فاستضعف طائفة وقوّى أخرى. وعندما جاءه موسى عليه السلام بنظام الحق والجد، أصر فرعون على باطله وأوهامه، حتى لم يفق من غفلته إلا عندما أدركه الغرق ورأى الموت رأي العين: ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس: 90-91).
فسبحان الله! ما أسهل أن يغرق الإنسان في بحر التفاهة حتى يصبح موته هو صحوته!
نبوءة الرسول ﷺ: "الرويبضة" على عرش العامة
وإذا عدنا إلى سنة الحبيب المصطفى ﷺ، وجدنا إشارات صريحة لهذه الظاهرة، وكأنها نبوءة تتحقق في عصرنا. فقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف:
> "سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ... وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ"
يا للهول! يصف الحديث بوضوح زمنًا تختلط فيه الأوراق: يُصدَّق الكاذب، ويُخوَّن الأمين، وتتقدم "الرويبضة" (وهو تصغير للتحقير) أي التافه، ليُقعد الناس عن الجهاد ومعالي الأمور ويجعلهم يطلبون سفاسفها.
خلاصة القول: إنذار المتنبي
لقد عرف المسلمون خطر التفاهة من الوحي قبل أن تُصنف فيها المؤلفات. وهي حرب مستمرة يقودها إبليس اللعين، يغرق فيها من انجرف مع تيار الانبهار بالتافهين.
وختامًا، يختصر الشاعر الحكيم المتنبي كل ما قيل في سطرين، وكأنه يصف الإنسان التافه:
تعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم.
فالإنسان "الصغير" -أي التافه- هو من يرى التفاهة بكل أشكالها وألوانها عظيمةً ومطلبًا. ومن التفاهة غياب الإرادة، حيث يبدو أن قيادة هذه الأمة قد قررت أن تبقى بمستوى الدون لا تهش ولا تنش خوفًا على مصالحها، وتنتج الكثير من الشعارات الرنانة، والتثبيط لتبقي الأمة في فراغ الشعارات والأحلام، مرتهنة ومركونة في زاوية الإهمال التاريخي، بعيدًا عن الفعل والتأثير والتحرر من الصغائر والتوافه. إن هذه القيادات مالت عن طريق الرشاد والعزة والكرامة واتبعت الهوى: ﴿وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ [الكهف: 28]. ويقول الله سبحانه في سورة النساء: ﴿فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ [النساء: 135].
النداء الأخير:
إن الوعي بخطورة التفاهة هو أول خطوة لإنقاذ الذات والمجتمع من مستنقع العبث والغرور الشيطاني. فالصراع مستمر: إما أن نختار نظام الحق والجد والمعالي، وإما أن نغرق في نظام التفاهة والباطل والأوهام.


























