بقلم / د.فيروز الولي
في السودان، لم تعد الحروب تُدار بالبندقية وحدها، بل بالذهب، وبالتحويلات البنكية القادمة من جهاتٍ تملك من الطموح أكثر مما تملك من الضمير.
قوات الدعم السريع — تلك القوة التي خرجت من رحم الميليشيات الجنجويدية — تحوّلت في ظرف سنوات من “أداة أمنية” إلى إمبراطورية مالية تملك مناجم الذهب وشركات النقل والمواشي والعقارات، ومن ثمّ صارت دولة داخل الدولة، ثم دولة على الدولة، ثم “دولة بلا دولة”!
من يموّل الدعم السريع داخليًا؟
لنبدأ من الداخل، حيث الذهب أغلى من الأرواح:
تمتلك قوات الدعم السريع شركة الجنيد للتعدين، وهي ذراعها الاقتصادية الأبرز، تسيطر على مناجم الذهب في دارفور، جبل عامر، وشمال السودان.
تتحرك عائدات هذه المناجم إلى حسابات وشركات واجهة تابعة لعائلة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، القائد العام للدعم السريع.
بالإضافة إلى ذلك، أنشأت القوة شبكة اقتصادية تمتد إلى مجالات النقل، التصدير، والمواشي، حتى باتت تنافس وزارة المالية نفسها!
جزء من تمويلها يأتي من الإيرادات الجمركية غير الرسمية التي تجمعها على الطرق بين الخرطوم ودارفور، في نظام جباية خاص بها أشبه بـ"الضرائب الثورية".
ببساطة، الدعم السريع يموّل نفسه بنفسه… مثل متجر صغير قرر أن يصبح بنكًا مركزيًا مسلحًا!
الممولون الخارجيون: الذهب يلمع خارج الحدود
وهنا تبدأ الحكاية الأكثر إثارة — بل يمكن أن تُدرَّس في جامعات التمويل السياسي الحديث بعنوان:
“كيف تحوّل منجم ذهب إلى حربٍ إقليمية؟”
الإمارات العربية المتحدة:
تعتبر أكبر مستورد للذهب السوداني، وفق تقارير رويترز (Reuters) وبلومبيرغ (Bloomberg)، وغالبًا ما تمر صادرات “الجنيد” عبر شركات واجهة إلى دبي.
وذكرت تقارير The Guardian وFinancial Times أن الدعم السريع تلقّى دعمًا ماليًا ولوجستيًا عبر قنوات تجارية وشركات خاصة إماراتية، ما جعلها المتهم الأبرز في تغذية آلة الحرب بالمال.
روسيا (مجموعة فاغنر):
بحسب تقارير الأمم المتحدة وBBC Africa Eye، أقامت قوات الدعم السريع علاقات مع شركة فاغنر الروسية منذ 2017، حيث قدّمت الأخيرة تدريبًا وتسليحًا ودعمًا تقنيًا مقابل امتيازات في التنقيب عن الذهب وتصديره عبر ميناء بورتسودان.
الذهب مقابل السلاح، والمعادن مقابل النفوذ — معادلة بسيطة لا تحتاج إلى دكتوراه في الجغرافيا السياسية!
ليبيا وتشاد:
استخدمت قوات الدعم السريع طرق التهريب الحدودية لتلقي دعم لوجستي من جماعات مسلحة متحالفة في جنوب ليبيا وغرب تشاد، في صفقات “غير رسمية” تشمل الوقود والسلاح.
حرب بأموال الذهب ومصالح الجيران
النتيجة؟
دولة منهكة تقاتل بجيشين:
جيش الدولة الرسمي الذي يقاتل “دفاعًا عن السيادة”،
وجيش “الذهب والظل” الذي يقاتل دفاعًا عن المصالح التجارية العابرة للحدود.
وفي الوقت الذي يموت فيه آلاف السودانيين، تتدفق شحنات الذهب عبر البحر الأحمر إلى مصافي خارجية، لتُصبّ أرباحها في حسابات “الأبطال التجاريين” للحرب.
هكذا تحوّل شعار “حماية الوطن” إلى “استثمار في الوطن المسلح”!
المفارقة الكبرى
في كل دول العالم تُستخدم الثروات لبناء الجسور والمستشفيات والمدارس،
أما في السودان، فالثروة تُستخدم لبناء الميليشيات!
بل وصل الحال أن يكون منجم الذهب أهم من مقر وزارة الدفاع، وأن تتحوّل دارفور إلى “وول ستريت” حربية بامتياز.
الخاتمة: ذهب بلا دولة… ودولة بلا ذهب!
قوات الدعم السريع ليست مجرد ميليشيا، بل نموذج اقتصادي جديد للحرب المربحة.
هي مشروع يجمع بين منطق الشركات متعددة الجنسيات ومنطق العصابات المسلحة.
تُظهر للعالم أن السلاح والذهب يمكن أن يتكلما اللغة نفسها، طالما أن الصمت الدولي يدفع الثمن.
ولأن السودان يستحق السلام لا الصفقة، فإن أي حل سياسي لا يضع حدًا لتجارة الحرب والذهب والدعم الخارجي، لن يوقف النزيف، بل سيحوّله إلى سوقٍ مفتوحٍ للألم والمرتزقة.
من صفحة الكاتب بالفيسبوك


























