بقلم/ أسماء نصار
لم يكن سقوط مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، مجرد حدث عسكرى عابر، بل لحظة فاصلة فى التاريخ السوداني الحديث، فهذه المدينة التى صمدت أكثر من 550 يوماً تحت الحصار، انهارت بعد أن خنقتها الحرب من كل اتجاه، جوعًا قبل أن تنهكها المعدات العسكرية، لقد تحولت الفاشر من رمزٍ للصمود في وجه مليشيات الدعم السريع، إلى مرآةٍ لأزمة وطنٍ يتداعى من أطرافه، بينما يقف المجتمع الدولى متفرجًا أمام مشهد تفكك دولة بحجم السودان.

تاريخيًا، تمثل الفاشر قلب دارفور النابض، ومركزها الإدارى والعسكرى، كما كانت عاصمة سلطنة دارفور في القرن السابع عشر، فموقعها الاستراتيجى بين شمال وغرب الإقليم جعل منها عقدة مواصلات تربط السودان بليبيا وتشاد ومصر.

تبلغ مساحة ولاية شمال دارفور نحو 296 ألف كيلومتر مربع، أى 12% من مساحة السودان، وتشكل أكثر من نصف مساحة الإقليم، بينما تبلغ مساحة دارفور مجتمعة ما يعادل مساحة فرنسا، لذلك، فإن السيطرة على الفاشر ليست مجرد إنجاز ميداني، بل تحول استراتيجى قد يغير موازين القوى على مستوى الإقليم كله.

وتقع المدينة على ارتفاع يقارب 800 متر فوق سطح البحر، وعلى بعد 800 كيلومتر غرب الخرطوم، ما يجعلها عقدة ربط طبيعية بين المركز والأطراف، وقد ظلت على مدى عقود مركزاً تجارياً وثقافياً، وموئلاً لتنوع إثني فريد، يضم مئات الآلاف من السكان المنتمين إلى قبائل شتى، إلا أن هذا التنوع تحول اليوم إلى هشيم بفعل الصراع الدموى الذي أعاد إلى الذاكرة مآسي دارفور مطلع الألفية.

منذ بدء الحرب في أبريل 2023، كانت الفاشر هدفاً متكرراً لهجمات لميليشيا الدعم السريع، التي سعت لإحكام قبضتها على آخر معاقل الجيش في دارفور، فرضت المليشيا حصاراً برياً خانقاً، منع دخول الغذاء والدواء والمعونات، ثم توسع الحصار ليشمل الفضاء الجوى، بعد إسقاط 3 طائرات للجيش بواسطة منظومات دفاع جوى متطورة.

مع مرور الأشهر، أصبحت المدينة مختنقة بالكامل، فقد انقطعت الكهرباء والمياه، دمرت المنشآت الخدمية، انهارت البنية التحتية، وارتفعت أسعار السلع إلى مستويات خرافية، بل اضطر السكان، وفق شهادات ميدانية، إلى تناول علف الماشية للبقاء على قيد الحياة.

تحول الحصار إلى أسلحة إبادة بطيئة، استخدم فيه التجويع كسلاح موازٍ للرصاص، ومع تصاعد الهجمات اليومية، التي كانت في البداية مرتين أسبوعيًا ثم أصبحت على مدار الساعة، بدا واضحاً أن المدينة تتجه نحو نهايتها.

فى الأسابيع الأخيرة قبل السقوط، استخدمت المليشيا المسيرات والأسلحة الثقيلة بشكل غير مسبوق، ما رجح الكفة عسكرياً لصالحها، خاصة مع انقطاع الإمدادات عن الفرقة السادسة مشاة، التي قاتلت حتى اللحظة الأخيرة.

شكل سقوط مدينة بارا صدمة إضافية للجيش السوداني، إذ كانت المنطقة مؤمنة ومحاطة بعدة متحركات عسكرية من الجيش والقوة المشتركة، فالعملية التي نفذتها قوات الدعم السريع جاءت مباغتة وسريعة دون مقدمات، مما دل على استمرار المزيد من تدفقات الأسلحة والعتاد، و ما أدى إلى رجوح كافة الدعم السريع العسكرية مع وجودها وسط حواضنها الاجتماعية وهذا ما جعلها تنجح بعد عام ونصف فى اقتحام الفاشر وصاحب دخولها عمليات قتل ممنهج على أساس اثنى وعرقى وسط أعين المجتمع الدولى.

وفي خضم الفوضى، أعلنت فى مدينة نيالا ما يعرف بـ"تحالف تأسيس"، وهو كيان سياسي موالٍ لمليشا الدعم السريع، يضم بعض القوى المدنية الطامحة لتقاسم السلطة، هذا التحالف شكل حكومة موازية ولكنها ظلت دون اعتراف محلى ودولى واقليمى، كانت تريد المليشيا من تكوينها الضغط سياسيًا على الحكومة بالجلوس الى تفاوض، وعندما فشلت فى ذلك، لجئت بكل ما أوتيت من قوة بفرض واقع عسكرى جديد فى دارفور بدخول الفاشر ظنًا منها أن ذلك سيجعلها تدخل تفاوض مع الحكومة السودانية كفتها فيه هي الأرجح وأنها ستساوم فى فكرة التفاوض أو الانفصال بعدما سيطرت على كامل دارفور.

وإذا ما ترسخ هذا الواقع، فقد يصبح السودان أمام نواة دولة جديدة في غرب السودان غير مستقرة ولا يمكن تشبيه هذا الوضع بالمشهد الليبى، لتعقيد المكون القبلى وانقسامه داخل دارفور نفسها على التماسك الموجود فى النسيج الاجتماعى شرق ليبيا والذى ساعد كثيرًا فى فرض السيناريو الحالي.

على الرغم من التحذيرات الأممية من كارثة إنسانية في دارفور، فإن القرارات الدولية بقيت حبيسة الأدراج، فقد أصدر مجلس الأمن قراراً بفك الحصار عن الإقليم لأسباب إنسانية، إلا أن القرار لم ينفذ، حتى التصريحات المتفائلة من الأمم المتحدة حول وصول شحنات إغاثة إلى مشارف الفاشر تبخرت، إذ مرت أسابيع دون تنفيذ.

المشهد الدولي يبعث على الإحباط، فالمنظمات الأممية تكتفي بالبيانات، والمجتمع الدولي يفتقر إلى الإرادة السياسية لإحداث تغيير حقيقي، فالفاعلون الدوليون الكبار، رغم امتلاكهم أدوات الضغط، يبدون وكأنهم يتعاملون مع السودان بمنطق إدارة الأزمة لا حلها.

هذا التراخي جعل الحرب تتفاقم حتى تحولت إلى أزمة إنسانية كبرى وصراع إقليمي، وسط غياب أى مبادرة فاعلة تعالج جذور الأزمة لا أعراضها فقط.
مع سقوط الفاشر، تفاقمت الكارثة الإنسانية إلى مستويات غير مسبوقة، فعشرات الآلاف من المدنيين نزحوا باتجاه الشمال الغربي هرباً من القتال، بينما شهدت المدينة أعمال نهب وانتهاكات واسعة ضد المدنيين.

وتراجعت الخدمات الطبية إلى حد العدم، وانهارت شبكات المياه والصرف الصحي، ما أدى إلى انتشار الأوبئة وارتفاع معدلات الوفيات، وتشير التقارير الميدانية إلى أن الفاشر تعيش اليوم واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في إفريقيا، حيث لم يعد هناك مستشفيات فعالة ولا مخزون غذائي كافٍ.

المنظمات الإنسانية، التي كانت تتخذ من الفاشر مركزًا لعملياتها لعقود، باتت عاجزة عن الوصول إلى المواطنين بسبب الحصار الأمني وانهيار البنية التحتية، وهكذا، تحول الإقليم إلى منطقة منكوبة بالكامل، بينما يراقب العالم بصمت مأساة تتسع كل يوم.

رغم الانكسار الظاهرى للجيش السوداني، إلا أن قيادته أعلنت أن إعادة التموضع خارج الفاشر خطوة تكتيكية للحفاظ على القوة البشرية وإعادة التنظيم، تمهيداً لاستعادة المبادرة لاحقًا.

هذا التبرير يعكس وعياً تكتيكياً بأن المعركة لم تحسم بالكامل، وأن الفاشر قد تكون مرحلة في حرب طويلة، خصوصاً أن الجيش ما زال يمتلك سلاح الطيران والمدفعية الثقيلة مع خبرة ميدانية اكتسبها من حروبه السابقة فى الجنوب.

ومع ذلك، لا يمكن تجاهل حقيقة أن السيطرة شبه الكاملة لمليشا الدعم السريع على دارفور منحتها عمقاً جغرافياً هائلاً وقدرة على التحرك بحرية عبر الحدود، هذا الواقع يضعف موقف الجيش في أى مفاوضات مستقبلية، ويمنح المليشيا ورقة ضغط سياسية وعسكرية خطيرة.

اليوم، وبعد أكثر من عامين على اندلاع الحرب، يتضح أن السودان يسير نحو تحول جيوسياسي خطير، فالصراع لم يعد بين جيش ومليشيا فقط، بل بين فكرة الدولة ووهم التفكك.

إذا استمر فشل المجتمع الدولي في إيجاد صيغة مرضية للحل فى السودان، فإن دارفور قد تتحول إلى دولة أمر واقع، تمهد إلى تفكيك السودان إلى كيانات متعددة على أسس جهوية أو قبلية.

وتكمن خطورة هذا السيناريو في أن تحويل فكرة إقامة دولة في دارفور واستخدامها كورقة ضغط سياسي قد يتحول إلى أمرٍ واقعٍ يزيد المشهد تعقيدً نسيجا فالتشبيه بين ليبيا والسودان غير دقيق؛ إذ إن دارفور ليست نسيجًا واحدًا ولا كيانًا متماسكًا. فالقبائل الإفريقية الأصلية، صاحبة الأرض والحواكير، ترفض سيطرة ميليشيا الدعم السريع على الإقليم.

والدليل على ذلك صمود أهالي الفاشر قرابة عامٍ ونصف أمام حصار قاتل وتجويع ممنهج، واستبسال جنود القوات المشتركة الذين يمتلكون حواضن شعبية واسعة داخل قبيلتي الفور والزغاوة وغيرهما من القبائل الإفريقية، في الدفاع عن المدينة رغم سقوط آلاف الشهداء فى سبيلها.

هذا الواقع يعني أننا، بقصد أو بغير قصد، نمهّد لقيام دولة فاشلة ستكون أكثر عنفًا في داخلها، وستمثل تهديدًا مباشرًا للأمن والسلم الإقليمي، خصوصًا لدول الجوار التي تمتد داخلها القبائل الإفريقية ذاتها.

ومن الضروري التنبيه إلى خطورة الانجرار وراء فكرة تكوين هذه الدولة، إذ إن الغرض من التلويح بها - إن كان دفع الحكومة السودانية والجيش إلى مرونة أكبر في التفاوض - قد يأتى بنتائج عكسية تمامًا.

فمثل هذا السيناريو سيدفع الجيش السوداني إلى مزيد من التعنت ورفض الجلوس إلى طاولة الحوار، وسيحاول مرارًا تحقيق انتصارات ميدانية في دارفور وكردفان لاستعادة السيطرة العسكرية، بعد أن كانت هناك مشاورات مبدئية تهدف إلى وضع إطار ورؤية للحل السياسى.

لكن دخول الفاشر بهذه الصورة أعاد المشهد إلى المربع الأول من الحرب، لتبدأ دورة جديدة من الصراع المفتوح بلا أفق واضح للنهاية.

نقلاً عن اليوم السابع

حول الموقع

سام برس